تدابير "حظر خاشقجي"
على الرغم من كل ردود الفعل التي عبرت عن خيبة أملها من القرارات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، بعد كشفها جزئيا عن خلاصات تقرير المخابرات الأميركية بشأن الجريمة المروّعة الذي ذهب ضحيتها الصحافي السعودي جمال خاشقجي، قبل عامين في قنصلية بلاده في إسطنبول، قد تحمل التدابير التي أعلنت عنها وزارة الخارجية الأميركية تحت اسم "حظر خاشقجي" بارقة أمل لكل المدافعين عن حرية الصحافة وحرية التعبير في العالم، لأنها تعبر عن إرادة الإدارة الأميركية تحت حكم بايدن بعدم السكوت مستقبلا عن الانتهاكات التي قد تطاول الصحافيين أو المعارضين، في بلدانهم أو خارج حدودها، بغرض إخراس أصواتهم وثنيهم عن القيام بمهامهم في نقد الحكومات غير الديمقراطية، وفضح الفساد في دولهم.
وبموجب هذه التدابير التي تنص على معاقبة كل الحكومات التي تعمل على إسكات المعارضين في بلدانها، بادرت أميركا إلى تطبيق هذه الإجراءات، أولا على 76 مسؤولا سعوديا، بمن فيهم المتورّطون في جريمة القتل الوحشية للصحافي خاشقجي، على أن تسري مستقبلا على كل المتورّطين في تهديد أو مضايقة معارضي حكوماتهم، داخل دولهم أو خارجها. وحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، تسمح الإجراءات الجديدة للولايات المتحدة الأميركية بـ "فرض قيود على منح التأشيرات للأشخاص الذين يتصرّفون نيابة عن حكومة أجنبية، ويشتبه في مشاركتهم بشكل مباشر في أنشطة جدّية وخارجية، موجهة ضد معارضي حكومات بلدانهم، سواء تعلق الأمر بقمع أو مضايقة أو مراقبة أو تهديد أو إيذاء لصحافيين أو نشطاء أو غيرهم ممن يُعتقد أنهم معارضون".
"حظر خاشقجي" نوع من الحماية المعنوية لكل الصحافيين والمعارضين، حتى يكونوا قادرين على ممارسة حقوقهم الإنسانية من دون خوف من انتقام أو عقاب
وفي البيان الرسمي المنشور على موقع وزارة الخارجية الأميركية، نقرأ أن هذه التدابير هي لتخليد ذكرى الصحافي السعودي الذي دفع حياته ثمنا لحرية التعبير عن أفكاره، وهي طريق للقول إن "روحه لن تذهب سدى"، وأيضا للرد على الحكومات التي تتجاوز حدودها بتهديد الصحافيين والنشطاء المعارضين، بغرض ثنيهم عن ممارسة حرياتهم الأساسية. هي إذن نوع من الحماية المعنوية لكل الصحافيين والمعارضين، حتى يكونوا قادرين على ممارسة حقوقهم الإنسانية وحرياتهم الأساسية من دون خوف من انتقام أو عقاب أو إيذاء حكومات بلدانهم. وتشمل هذه التدابير رفض منح تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة للأشخاص المتورّطين في عمليات تضييق أو تهديد أو إيذاء الصحافيين أو المعارضين، وقد يتّسع المنع، عند الاقتضاء، ليشمل حتى أفراد الأسر المباشرين لكل من تبث تورّطه في مثل تلك الانتهاكات.
وبموجب هذه التدابير، قررت الخارجية الأميركية تقديم تقارير سنوية، ضمن التقارير السنوية التي اعتادت تقديمها عن حالة حقوق الإنسان وحرية الصحافة في كل دول العالم، توثق حوادث المضايقات والمراقبة التي يخضع لها الصحافيون والمعارضون، وتسليط الضوء على كل حكومةٍ تستهدف معارضيها، سواء محليًا أو خارج حدودها، لمجرّد ممارستهم حقوقهم الإنسانية وحرياتهم الأساسية. أهمية هذه التدابير، على الرغم من محدوديتها، في أنها تستهدف معاقبة الحكومات التي تمارس التضييق على حرية الصحافة والتعبير في بلدانها لإسكات الأصوات الناقدة أو ترهيب أصحابها، فهي بمثابة التزام أدبي من الإدارة الأميركية الجديدة بدعم حرية الصحافة والتعبير في العالم، بعد أربع سنوات مظلمة سجلت تراجع أميركا عن الدفاع عن قيم حرية الصحافة والديمقراطية في العالم، ما شجّع حكوماتٍ كثيرة غير ديمقراطية، وفي منطقتنا العربية خصوصا، على إسكات الأصوات المستقلة وترهيبها، من دون خشية من أن تتعرّض لأي عقاب من أي جهة كانت.
قد تحمل التدابير التي أعلنت عنها واشنطن باسم "حظر خاشقجي" بارقة أمل للمدافعين عن حرية التعبير
وعلى الرغم من أن هذه التدابير لا ترقى إلى صفة القانون، إلا أنها تأتي مكملة لـ"قانون ماغينسكي" الذي يحمل اسم محام روسي قتل في السجن عام 2009، بعد أن زجّ داخله، من دون محاكمة، بسبب كشفه عمليات تهرّب ضريبي وفساد في بلاده. ويعطي هذا القانون، الذي أجيز في عهد الرئيس الديمقراطي السابق، باراك أوباما، واعتمد الكونغرس نسخته الدولية عام 2016، للرئيس الأميركي صلاحية فرض عقوباتٍ على أي أجنبي متهم بانتهاك حقوق الإنسان، مثل القتل والتعذيب وغيرهما من الانتهاكات المنصوص عليها في لائحة حقوق الإنسان الدولية. وتأتي اليوم تدابير "حظر خاشقجي" مكملة لـ "قانون ماغينسكي"، عسى أن تجد لها تطبيقا عمليا في منطقتنا العربية، إذا لم تطغَ مرة أخرى لغة المصالح على قيم الحرية والعدالة والديمقراطية.
وفي كل الحالات، يبقى الهدف من سن إجراء "تدبير خاشقجي"، عدا أنه تكريم لإرث صاحبه الصحافي السعودي الذي قتل بسبب مواقفه وآرائه، فهو يحمل، بين طياته، رسالة من الإدارة الأميركية الجديدة إلى كل الحكومات غير الديمقراطية إن جرائمها ضد حرية الرأي والتعبير لن تفلت مستقبلا من العقاب. وتكمن أهميته في أنه يستهدف مباشرة منفذي تلك الجرائم، كيفما كانت مستوياتها، وكيفما كان مستوى مسؤولياتهم فيها، وهذه في حد ذاتها رسالة ردع قوية لكل من ستسوّل له نفسه مستقبلا تنفيذ أوامر خارج القانون، للتضييق على الصحافيين والمعارضين، أو إيذائهم أو ترهيبهم بقصد إسكات أصواتهم. وهذه مجرّد بداية على طريق طويل، لوضع حد لسياسة الإفلات من العقاب التي كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تزكيها وتحميها وترعاها. لعلها عودة وعي متأخرة، نتمنّى أن تكون هذه المرة صادقة.