المغرب المنسيّ

13 سبتمبر 2023
+ الخط -

لم يكن المغاربة في حاجةٍ إلى كارثة مأساوية فظيعة ومؤلمة، مثل الزلزال الذي خلف آلاف الضحايا والمصابين، لكي يكتشفوا الوجه الآخر للمغرب المنسيّ، مغرب الهوامش والقرى المنسيّة التي ما زال سكّانها يعيشون حياة الكفاف والعفاف والغنى عن الناس. إنه المغرب العميق، المغرب الأصيل، المغرب غير النافع كما كان يسمّيه المستعمر الفرنسي، مغرب اليد العاملة الرخيصة، والصناعات التقليدية المندثرة التي تُزيّن بها بيوت الأغنياء، والمباني الطينية الهشّة التي طالما شكّلت خلفيات للأفلام العالمية لجذب السياح الأجانب إلى بلاد العجائب والغرائب.

الصورة التي طالما احتفظ بها المغرب في الخلفية، واجهة سياحية لإغراء السيّاح الراغبين في السفر عبر الزمن إلى الوراء، إلى العصور التي تذكّر الإنسان باكتشاف النار والكتابة والفلاحة، تهشّمت وتحوّلت إلى ركام، وتمّت تسويتها بالأرض التي صنعت من موادّها عناصرها التي كانت تسحر الزوار وتلفت الأنظار إليها. 11 ثانية هي الزمن الفعلي الذي استغرقته الضربة القوية التي هزّت جبال الأطلس الكبير، وامتد قطر دائرة ارتدادها نحو خمسمائة كلم، أسقطت كل الحُجب التي كانت تُخفي عن الأنظار الوجه الآخر لمغربٍ آخر، مغرب الفقر والفقراء بعيدا عن مغرب المظاهر والكليشيهات التي تزيّن البطاقات البريدية وملصقات الدعاية السياحية.

زلزال الحوز، أو زلزال المغرب، عرّى الجانب الآخر المسكوت عنه الذي لا نجد صوره في برامج التنمية الرسمية ومشاريع الإنجازات التي تؤثث بها خطابات وسائل الإعلام الرسمية

زلزال الحوز، أو زلزال المغرب، عرّى الجانب الآخر المسكوت عنه الذي لا نجد صوره في برامج التنمية الرسمية ومشاريع الإنجازات التي تؤثث بها خطابات وسائل الإعلام الرسمية، وكَشف عن حقائق الواقع الذي لا يرتفع، واقع الناس الذين ما زالوا يعيشون حياةً شبه بدائية في مبانٍ من الطين والحجر، سقوفها من الخشب والقشّ والتراب، مغرب قرى الطين والحجر، مغرب الناس البسطاء الذين عاشوا على هامش الدولة والمجتمع، منسيّين في قراهم البعيدة والمعزولة، زادُهم الوحيد كبرياؤهم وتعفّفهم وقناعتهم التي حوّلوها على مرّ الزمن إلى كنوزٍ لا تفنى. إنه مغرب الأغلبية الصامتة التي تعيش تحت مستوى الفقر أو بالكاد في مستوى هذا الخط الافتراضي الذي يحدّد سقف دخل الفرد اليومي في أقل من دولاريْن، تمثّل حسب الإحصاءات الرسمية ثلث سكان المغرب. ولا مكان لهذه الفئة في برامج الأحزاب السياسية التي تستعملها وعاء انتخابيا في فترات حملاتها الانتخابية، ولا تمثيليّات نقابية تتحدّث باسمها، ولا أصوات لها في وسائل الإعلام الرسمي، فئة صامتة لا وقت لها للاحتجاج أو التظاهر، لأنها تعلمت أن تكدّ من أجل أن تحرّر قوت يومها بعرق جبينها من الطبيعة القاسية التي تعايشت معها منذ عدة عقود!

صحيحٌ أن المغرب قطع، خلال العقدين الماضيين، أشواطا كبيرة في بناء تطوّره العمراني العصري، وفي إنشاء المشاريع الكبيرة والمُبهرة، تتجسّد في شبكة طويلة ومتطوّرة من الطرق السيارة السريعة، وفي تشييد أكبر ميناء على البحر الأبيض المتوسط، يضاهي ميناء الخزيرات في الجنوب الإسباني، وفي تطوير مطارات عدّة مدن مغربية بمواصفاتٍ عالمية، ومد أول وأطول سكة للقطار السريع، ورفع أطول ناطحة سحابٍ في شمال أفريقيا، وعلى مستوى صناعة السيارات أصبح يتصدّر القارّة الأفريقية متفوّقا على جنوب أفريقيا. وحتى في المجال الزراعي، وبالرغم من سنوات الجفاف المستمرّة التي عرفتها البلاد، تأتي صادرات المغرب من الفواكه والخضر الطازجة في مقدّمة واردات دول أوروبية عديدة من هذه المواد. لكن، هذا مجرّد نصف الكأس الممتلئة التي تباهي بها الدولة الرسمية وإعلامها الرسمي منافسيها في الخارج، أما نصف الكأس الفارغ فذلك الذي كشف عنه الزلزال لمغاربة منسيّين ومناطق مهمّشة لم يصل إليها نصيبها من ثمرة التنمية التي يشهدها العديد من مدن المغرب النافع!

مظاهر خداعة تخفي الوجه الآخر لمغربٍ محرومٍ من كل شيء إلا من عفّة أهله وكبريائهم، هو المغرب الذي كشفه الزلزال

عندما فرض الاستعمار الفرنسي سيطرته على المغرب قسّم أرضه، بناء على معايير نفعية محضة، إلى مغرب نافع وآخر غير نافع من ضمنه المناطق التي ضربها الزلزال أخيرا. والمفارقة أن القرى التي انتشرت صور دمارها على شاشات القنوات الفضائية ظلت على حالها كما وجدها الاستعمار، وكما ورثتها الدولة المغربية المستقلة عنه. وطوال 67 سنة، عمر استقلال المغرب، توقّف الزمن فيها، لتبقى صورا جامدة للترويج السياحي حتى سوّاها الزلزال بالأرض. وفي عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي حكم المغرب زهاء أربعة عقود بقبضة من حديد، كان البلد يوصَف في عهده بأنه "مغرب المفارقات"، نسبة إلى المفارقات الصارخة بين نخبة غنيّة تحتكر الثروة والسلطة وتمثل الأقليّة الحاكمة، والشرائح الفقيرة التي تمثل أغلبية الشعب تعيش الفقر والتهميش والقمع. ومنذ جاء الملك محمد السادس إلى الحكم، قبل ربع قرن، أصبح البلد يجمع بين المفارقات التي ورثها الملك الحالي عن والده، واتّسعت هوّتها بين الأغنياء والفقراء، وبين المظاهر الخدّاعة التي تحاول إخفاءها وراء منجزات خطط التنمية والتطوير في المدن والحواضر الكبرى، ما جعل البلد يستحقّ لقبه الجديد "مغرب المفارقات والمظاهر"، أي المظاهر الخدّاعة التي تجعل الزائر ينبهر بما يراه من تقدّم وتطوّر ملموسين في أغلب جوانب الحياة العصرية وهو يجوب المدن والحواضر الكبيرة، لكنها مظاهر تخفي الوجه الآخر لمغربٍ محرومٍ من كل شيء إلا من عفّة أهله وكبريائهم، وهو المغرب الذي كشف عن وجهه سافرا بعد الزلزال!

وبعيدا عن هذه الصورة المأساوية التي كشف عنها الزلزال لمغربٍ آخر، ورغم حجم المأساة، وهول الحدث، ووجع الكارثة، ثمّة صورة أخرى أكثر إشراقا انبلجت مثل نقطة ضوء من تحت ركام الزلزال المدمّر لتضيء الطريق نحو المستقبل، جسّدتها الأطر (الكوادر) المغربية الكفوءة، كلّ في مجالاته، انطلاقا من تضحيات فرق الإنقاذ واحترافية الجيش المغربي، وكفاءة الأطقم الطبية، وانتهاء بمظاهر التضامن الشعبي والتلقائي التي أعربت عنها كل شرائح المجتمع المغربي في كل مدنه وقراه التي هبّت منذ فجر الكارثة إلى مدّ العون وجمع التبرّعات للضحايا. وليست هذه الصور غريبة عن قيم المجتمع المغربي وثقافته، وهي تختزل صورة المغرب الحقيقي، ومغرب المستقبل، مغرب التضامن والتعاضد والتآخي، مغرب المساواة والعدالة الاجتماعية، مغرب الحقوق والحرّيات الذي ما زالت شرائح واسعة من الأغلبية الصامتة من أبناء الشعب المغربي تتطلّع إلى فجره، ولسان حالها يقول: اشتدّي أزمة تنفرجي... ورُبّ نقمةٍ في طيها نِعَمٌ!

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).