المعادلة المستحيلة في فلسطين

04 ديسمبر 2023
+ الخط -

رغم أن استئناف إسرائيل عملياتها العسكرية الغاشمة على قطاع غزّة كان متوقّعاً مسبقاً من قبل تنفيذ الهدنة التي لم تستمر سوى سبعة أيام، إلا أن أعمال القصف والقنص والتوغّلات التي قامت بها قوات الاحتلال بعد انتهاء الهدنة تكشف بوضوح أن الحرب الدائرة ليست محكومة فقط بأهدافها العملياتية المعلنة منذ يومها الأول. ذلك أن مجرّد التوصّل إلى هدنة عسكرية وإبرام اتفاق تبادل للأسرى والرهائن يمثل، في حد ذاته، انتكاسة وتقويضاً لمنطق تصفية حركة حماس، والقضاء على المقاومة المسلحة في غزّة، فهو مشهد سريالي بامتياز، حين تنفذ صفقة سياسية يجري بموجبها تبادل المحتجزين من الجانبين ويتم تمديدها مرّات ثلاث. وفي اليوم التالي مباشرة، تستأنف المجازر والإبادة الجماعية التي ثبت يقيناً، على مدار أكثر من 50 يوماً، أنها تستهدف حصراً المدنيين، أطفالاً ونساءً وشيوخاً.
لا يتعلق الأمر إذاً بهدف تكتيكي أو عملياتي محدّد كالقضاء على مجموعة مقاتلين، بل ولا بهدف عسكري استراتيجي كتصفية حركة مسلحة مهما بلغت من قوة أو تأثير ميداني أو سياسي. وإنما الهدف هو القضاء على الشعب الفلسطيني نفسه، أو بعبارة أدقّ، إنهاء وجوده فوق الأرض التي يعتبرها اليهود "أرض الميعاد" بالنسبة لهم.
ربما يبدو الأمر فجّاً وبشعاً في غزّة، حيث الذبح والقتل والإبادة الجماعية، لكن جوهره، في النهاية، لا يختلف عما يجري في القدس أو الضفة الغربية أو بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث انتزاع الممتلكات وتهويد المقدّسات وتشريد أصحاب الأرض الأصليين وحرمان من أُبعد منهم عن أرضه طوعاً أو كرهاً، من العودة. فضلاً عن استخدام كل وسائل الضغط والتضييق، من اعتقالات مستمرة من دون أسباب، إلى حصار اقتصادي متكرّر وتقييد وصول الرواتب والمخصّصات المالية، وصولاً إلى العنصرية حتى ضد عرب 48 الذين يُفترض أنهم مواطنون إسرائيليون، قانونياً على الأقلّ. ولا حاجة، بالطبع، إلى التذكير بالتوسّع المتنامي في بناء المستوطنات والاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ومباشرة تغيير ديمغرافي عميق بوسائل ومداخل متنوّعة.
هذه الممارسات الثابتة في مختلف الأراضي الفلسطينية قائمة وثابتة ومستمرّة، قبل وبعد اتفاقات أوسلو التي لم تلتزم إسرائيل بشيء منها، وقبل سيطرة حركة حماس على قطاع غزّة. وإلا فالنظر إلى الدائرة الأوسع جغرافياً وموضوعياً وتاريخياً يؤكد أن فكرة تهجير الفلسطينيين من غزّة إلى الخارج، أياً كانت الوجهة، ليس هدفها على الإطلاق اتّقاء عمليات المقاومة المسلحة، فالفلسطينيون في الضفة الغربية وفي المناطق الخاضعة لسيطرة إسرائيل، بمن فيهم عرب 48، ليست فيهم مقاومة مسلّحة، ولا يمثلون أي تهديد لإسرائيل من أي نوع. ورغم ذلك، لا يمكن تفسير الممارسات والإجراءات التي يتعرّضون لها إلا في إطار سياسة ممنهجة ومتعمّدة لإجبارهم على الخروج ومغادرة فلسطين. مقولة "حرب وجود لا حدود" صحيحة تماماً ومعبّرة بدقّة عن جوهر الصراع.. وفي حقب سابقة، ترجمتها الحنجورية العربية برفع شعار "إلقاء إسرائيل في البحر"، غير أن العرب تخلّوا تماماً، فعلاً وقولاً، عن الشعار وعن الفكرة. بل ولم يعد هناك حديث أو طرح يتعلق بصراع الوجود ولا حتى النزاع على الحدود.
وعلى العكس، إسرائيل هي التي تتمسّك، عن عقيدة وإيمان شديد، بأنه صراع بقاء أو فناء. ومنذ تأسيس دولتها المفتعلة عام 1948، لم تتوقّف يوماً عن السعي الحثيث إلى البقاء على حساب فناء الفلسطينيين بل والعرب، فوجودهم هو المعادل العكسي للوجود اليهودي فوق أرض فلسطين. وبالتالي، في دولة شعبها متطرّف وكذلك حكومتها، لا وجود ولا بقاء لإسرائيل مع استمرار الفلسطينيين في أرضهم. تلك هي المباراة الصفرية أو المعادلة المستحيلة التي تحكم الصراع، بمختلف أشكاله، ومهما تعدّدت معاركه وهدناته.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.