أسباب أخرى لخسائر قناة السويس
انخفضت عائدات قناة السويس المصرية بنسبة 61% في العام 2024 مقارنة بالعام السابق 2023. وحصرت السلطة الحاكمة في مصر أسباب تلك الخسائر في الأحداث المتلاحقة في المنطقة، وخصوصاً اضطراب الملاحة في البحر الأحمر على وقع المناوشات العسكرية بين إسرائيل والحوثيين خلال الأسابيع الماضية. إذ تفرّغت إسرائيل لتوجيه ضربات عنيفة للحوثيين في اليمن. وهو ما دفعهم، في المقابل، إلى استئناف عمليات استهداف بعض السفن المارّة في باب المندب، ما أدّى إلى تفاقم الخسائر التي تتكبّدها القناة جرّاء امتناع كثير من شركات الملاحة البحرية عن تمرير سفنها في البحر الأحمر، وتغيير مسارها إلى رأس الرجاء الصالح.
لقد تأثرت عائدات القناة فعلياً بما يجري حالياً في البحر الأحمر. لكن مسلسل الخسائر بدأ قبل ذلك بمدة طويلة، وتحديداً من أواخر العقد الماضي الذي اتسم بركود نسبي في حركة التجارة العالمية، خاصّة مع تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة في العامين الأخيرين من رئاسة دونالد ترامب الأولى (2016 - 2020). ثمّ جاءت جائحة كورونا وما رافقها من إغلاق عالمي أوقف حركة الملاحة البحرية والسفر والشحن التجارية وغير التجارية، وقطع سلاسل التوريد والإمداد للصناعات والأسواق في مختلف أنحاء العالم. وقبل أن تنتهي ذروة كورونا، نشبت الحرب الروسية الأوكرانية، وتسبّب توقّف حركة الصادرات الروسية والأوكرانية في ارتباك عدد من سلاسل توريد المواد الخام لعدد من الصناعات المهمة، سواء في الجانب الغربي من العالم، أي الولايات المتحدة وأوروبا، أو في النصف الشرقي حيث الصين واليابان والنمور الآسيوية. صحيح أنه ليست للسلطة في مصر يد في هذه التطورات السلبية التي تسبّبت في تراجع عائدات قناة السويس بشكل ملحوظ ومؤثّر، لكن بالنظر إلى أن ذلك المنحنى الهابط لمداخيل القناة بدأ قبل حوالي خمسة أعوام، فإن ربط تراجع المداخيل بتطوّرات الأسابيع الماضية فيه من التبسيط والتسطيح ما يتجاوز سوء التقدير وقصر النظر. وإنّما السبب هو التتابع الزمني المباشر بين مشروع ازدواج القناة جزئياً (2016 - 2018)، والتطوّرات السلبية المشار إليها.
بالتأكيد، لم يكن أحد يعلم عند اتخاذ قرار الازدواج أن تلك التطوّرات ستحدث، لكن ما يجب التذكير به أن خطوة الازدواج كانت بقرار منفرد من الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولم يخضع لدراسات جدوى أو أي نوع من الدراسة، بل إن الانتقادات التي وجّهها خبراء متخصّصون في الاقتصاد وآخرون في الملاحة قُوبِلت بحملات تسفيه شرسة من إعلام السيسي. المعنى أنه ليس مطلوباً من أحد التنبؤ بالمستقبل أو العلم بالغيب، ولكنّ المشكلة هي سوء التخطيط والخلل في الإدارة. فكثير من الخبراء أكّدوا أن تطوير المجرى الملاحي لقناة السويس (بتعميقه وتوسيعه) هو المطلوب لتعظيم عائداتها ورفع الحصيلة المالية من حركة مرور السفن فيها. والأكثر أهميةً أن ذلك ليس مطلوباً بشكل عاجل، إذ تشير الدراسات الاستشرافية إلى أن حركة التجارة البحرية غير مرشّحة للتوسّع في المدى القصير، بل إن قابلية المجرى المائي للتوسيع وزيادة عمقه محدودة بما لا يسمح بمرور السفن العملاقة وزيادة حصيلة رسوم المرور بشكل كبير.
مبلغ 60 مليار جنيه مصري الذي أنفق على ازدواج بضعة كيلومترات من المجرى الملاحي، لو خصّص لمشروعات صناعية أو إنتاجية أو حتى خدمية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس نفسها، لعوّضت عوائدها كثيراً من الخسائر الحالية. لم تكن قناة السويس بحاجة إلى ازدواج المجرى الملاحي جزئياً ولا كلّياً، وليست مشكلة القناة في نشوب أزمات إقليمية ولا وقوع كوارث مفاجئة، وإنما في افتقاد حسن الإدارة، وتجاهل الدراسات على وفرتها، وتغييب المتخصّصين على كثرتهم. والسبب الأصلي وراء ذلك كلّه هو الانفراد بالقرار بغير علم ولا حيثية.