العفو يا لجنة العفو
تواصل النظام المصري مع بعض معارضيه، من دون آخرين، وجرى الترتيب لما عُرفت بلجنة العفو الرئاسي، للمساعدة والتفاوض لتحرير "بعض" المعتقلين، أيضا من دون آخرين، بطبيعة الحال.. ذهب الأصدقاء إلى مائدة إفطار في شهر رمضان، وتحدّث عبد الفتاح السيسي عن يناير ومسؤوليتها عن "كل شيء" سلبي يحدُث في مجرّة درب التبانة. وبدا الجنرال دفاعيا وهو يتحدّث عن محمد مرسي، ترحّم السيسي على رئيسه السابق، وهو الحضور الأول للرحمة في خطابات "الجنرال". ورحّب، بشكلٍ بدا عفويا، بحضور الأستاذ حمدين صباحي، وصافح خالد داود، أمام الكاميرات، ومن بعدها بدأت معركة تكسير عظام، على مواقع التواصل الاجتماعي، فريق مؤيد للتواصل مع النظام وآخر يعارض ذلك بصيغ، وأسباب، مختلفة، بعضها "نظيف"، ومفهوم، والآخر يدلّ إلى أصحابه ويعبّر عنهم، حيث لا يعنيهم سوى مكاسبهم (وليحترق المعتقلون).. تمويلات مجانية (بلا مردود سياسي حقيقي)، أو حضور ووجاهة سياسية (خذونا معكم)، أو استمرار فتح "دكانة" المظلومية وأرباحها المختلفة، والتي ستتعرّض للبوار، و"التشميع"، حال تحرّك ملف المعتقلين.
يبدو المشهد ملتبسا، على وضوحه، غائما، رغم كونه رصاصةً في منتصف الرأس، غابة من الأكاذيب والمزايدات حالت دون قراءة "المشهد" والتحرّك وفقا له، كما هو، لا كما نتمنّاه، الأمر الذي سبق وضيّع فرصا كثيرة، ابتداء من رحيل حسني مبارك، وليس انتهاء برحيل مرسي، أخطاء بعضها فوق بعض، ولا يحول تشابهها دون تكرارها، كما هي. البديهية الأولى: نحن مهزومون، هزيمة واضحة، ساحقة، لا يقلّل منها فشل الطرف الآخر، وتعثّره في الملف الاقتصادي، وذهابه، الحتمي، إلى أزمة اقتصادية طاحنة، ووقوفه على أبواب أمراء الخليج وشيوخه ليشحذ، وتحوّل كثيرين من محبّيه إلى قنابل كراهية موقوتة، في انتظار "ثورةٍ ما". الاعتراف بالهزيمة ليس هزيمة، كما يروّج الشعبويون، ومحترفو تحويل هزائم الواقع إلى انتصارات العالم الموازي، بحيل الخطاب، وتفانين التأويل بالتهويل، وبيع "الهجايص" في قوالب القيمة والنضال والجهاد في سبيل "الترافيك". الهزيمة هزيمة، اسمُها هزيمة، وحقيقتها هزيمة، وما يترتب عليها ليس انتصارا، إنما تقليل للخسائر، (إلى حين).
الثانية: الدولة المصرية، هنا والآن، ليست دولةً بالمعنى المفهوم، هي كما وصفها صاحبها ومالكها ومخضعها وراكبها، كما "الحنطور"، عبد الفتاح السيسي "شبه دولة"، مؤسّسات، جيش وشرطة وخلافه، لحماية نظام، لا شعب، طبقة حاكمة، لا مواطنين، تشكيل عُصابي، لا دولة، وفق أي تعريف سياسي. وليس لدى النظام أي سبب، مادّي، أو انحياز قيمي أو أخلاقي، للتعامل مع أي مصري، في الداخل، معارض أو غيره، بوصفه ندّا، أو حتى بوصفه موجودا، مواطنا، يحمل الجنسية المصرية ولديه حقوق، وأي تعاملٍ مع النظام وفقا لهذه الاستحقاقات، أو على افتراض وجودها، أو "فهم" من يحكم لها هو محض تضييع وقتٍ وجهدٍ وأعمار، وأحيانا آجال (كما هو معلوم من السيسي بالضرورة).
الثالثة: التواصل مع النظام، أي نظام، مهما بلغت درجة انحطاطه، هو عملٌ سياسي، وله اشتراطات سياسية، تحدّدها إكراهات الواقع، من دون غيرها من قيم، (أي قيم وأي أخلاق وأي عدل ونحن نتعامل مع السيسي؟) الجلوس إلى مائدة النظام .. سماع شتيمتنا بآذاننا.. مصافحة من يشتمنا ويسجننا ويشوهنا .. وصف من باع التراب الوطني بالوطني .. وصف تبرئة المظلومين المستحقة بـ"العفو".. وتوجيه الشكر إلى السجّان .. كلها تصرّفات مفهومة في سياقها المأزوم، والمسجون، بدوره، من دون أي قدرة على الفكاك.. ولا يجوز لنا، في تقديري، تحويلها إلى مادّة للانتقاص من أصحابها، إلا إذا كان ثمّة بديل عنها أو عنهم، (أحيانا يكون تجرّع السم مرحلة إجبارية من مراحل العلاج).
أخيرا: مستوى الأداء السياسي للمجموعة التي تتعامل مع النظام هو ما سيحدّد مستوى الدعم المطلوب، ويمنح خطابات المطالبة به قيمة و"عينا". وإذا كانت "السياسة" هي باب الخروج "الوحيد"، الذي ندعو إلى استغلال ممكناته وتحمل إكراهاته، فليس من المعقول، أو المقبول، أن نكون بحاجةٍ إلى تنبيه بعض أعضاء اللجنة، نفسها، إلى "تسييس" خطاباتهم. الرحمة.