"العدل والإحسان"... خطوة مهمّة إلى الأمام
طرحت جماعة العدل والإحسان (أكبر جماعة إسلامية في المغرب)، في السادس من فبراير/ شباط الجاري، وثيقة سياسية ترسم الملامح الكبيرة لمشروعها السياسي والمجتمعي، هي تمرين جديد تقوم به الجماعة المعارضة للإعلان عن نفسها فاعلا سياسيا ما زال قادرا على إثارة النقاش الفعال والجدّي داخل المجتمع، وطرح الأسئلة الحرجة والجريئة التي لم تعد هيئات سياسية ومجتمعية كثيرة قادرة على الاقتراب منها.
الوثيقة صادرة عن "الدائرة السياسية"، أي الجناح السياسي داخل الجماعة، ومن فضائلها أنها بعثت النقاش السياسي من جديد في المغرب، فهي مثل حجرٍ رُمي في بركة ظلّت راكدة لأسباب كثيرة. وقد حملت بين صفحاتها أكثر من رسالة موجهة إلى الدولة والمجتمع والأتباع والمتعاطفين، وإلى الخارج، من خلال تجاوز مرحلة الغموض وتوضيح الأفكار لطمأنة المتخوّفين والردّ على المشكّكين وإقناع المتردّدين وفتح باب الحوار واسعا لتقبل النقاش والنقد والاعتراض. وحتى لو لم تحقّق الوثيقة الأهداف المتوخّاة منها، فهي على الأقل أوجدت الحدث، وحققت للجماعة "حملة إعلامية" قوية جعلتها تتصدّر النقاش السياسي في المغرب بين الفاعلين السياسيين وأصحاب القرار والمهتمين بالشأن العام بصفة عامة في المغرب. ولذلك هي مبادرة مهمة، وجاءت في وقت تحتاج فيه الساحة السياسية المغربية إلى رفع مستوى النقاش والخطاب بعيدا عن الأخبار التي باتت تهيمن اليوم على وسائل الإعلام المغربية، والموزّعة ما بين التفاهات وأخبار فضائح الفساد والاعتقالات في صفوف سياسيين ينتمون إلى أحزب تدير الشأن العام.
وسواء من خلال حجم الوثيقة (190 صفحة)، أو من حيث حبكة صياغتها ووضوح عباراتها ودقّة اختيار كلماتها، يتبيّن أن محرّريها بذلوا مجهوداً فكرياً معتبراً، هو خلاصة تمرين فكري ودعوي ونشاط سياسي استمر أكثر من أربعة عقود، هي عمر جماعة العدل والإحسان التي حافظت على عذرية سياسية نادرة، نائية بنفسها عن كل أنواع الاختراقات والمساومات والإغراءات التي أفقدت أحزاباً سياسية كثيرة مصداقيتها وشعبيتها، ما مكّن الجماعة من تحصين نفسها ضد داء الانشقاقات التي مزّقت قوى سياسية كثيرة في المغرب، وأدت إلى بلقنة المشهد السياسي.
تعلن الجماعة عن طرحها الساعي إلى تأسيس وضع جديد من أجل "الإسهام في بناء دولة العدل والكرامة والحرية"
تحمل الوثيقة الجديدة لـ"العدل والإحسان" تشخيصا للوضع المغربي من وجهة نظر الجماعة، من جميع النواحي السياسية والدستورية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية، وهو تشخيصٌ من وجهة نظر هيئة معارضة، ولذلك جاء نقديا قاسيا ركّز على السلبيات، الموجودة فعلا، وتجاوز ذكر الإيجابيات التي لا يمكن نكرانها. لكن الجديد في الوثيقة ما جاء في باب اقتراحاتها التي حملت تصوّراتها، والتي كانت واضحة في عدة أمور مهمة، وما زالت تحتاج إلى مزيد من الوضوح في مواضيع مفصلية، لإزالة كل أسباب الخوف والتخوّف والتخويف أيضا من الجماعة ومشروعها.
ولعل المبادرة إلى إصدار وثيقة كهذه وطرحها للنقاش العمومي، في حد ذاته، أمرٌ محمود، لأنه إعلان صريح من الجماعة عن تخلّيها عن منطق الهيمنة والغلبة، وتغليبها منطق التوافق والمشاركة والحوار البناء القائم على الأفكار والمواقف والتصوّرات، وسعيها نحو إدارة الخلافات وتقريب المسافات بين القوى الديمقراطية الحيّة من أجل بناء دولة المجتمع الذي تصبو إليه. ورغم أن الجماعة كانت دائما تمارس السياسة بمفهومها العام إلى جانب نشاطها الدعوي الأساسي، إلا أنها، من خلال وثيقتها الحالية، تتقدّم خطوة إلى الأمام نحو الممارسة السياسية، بمعنى المشاركة والمنافسة والتدافع، وهذا في حد ذاته تطوّر إيجابي في مسار الجماعة.
ومنذ بداية صفحاتها الأولى، تعلن الجماعة عن طرحها الساعي إلى تأسيس وضع جديد من أجل "الإسهام في بناء دولة العدل والكرامة والحرية"، و"إحداث قطيعة فعلية مع الاستبداد". ومن أجل تحقيق ذلك، توضح الوثيقة أن الهدف هو بناء "دولة مدنية". وإذا كانت الجماعة قد عبّرت أكثر من مرّة في السابق عن اختيارها نمط الدولة المدنية، إلا أنها اليوم تعبّر عن ذلك في وثيقة رسمية تمثل رأي جميع أعضائها، تنصّ بكل وضوح على أنها "تسعى إلى الإسهام في بناء دولة عصرية عادلة منضبطة للتعاقد الدستوري والمنبثق عن الإرادة الشعبية، دولة مدنية بكل ما يعنيه ذلك من بعدٍ عن طبيعة الدول الثيوقراطية والعسكرية والبوليسية، دولة القانون والمؤسّسات القائمة على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات، وعلى التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرّة ونزيهة ومنظمة وفعالة". ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية، تقترح الوثيقة الانطلاق من "سلطة تأسيسية جماعية" لوضع دستورٍ ديمقراطيٍّ وتأسيس وضعية جديدة، لكنها لا تشرح كيف ستقوم هذه السلطة، وتركت أمر تأسيسها للحوار والنقاش بين القوى الديمقراطية، من دون أن تأتي على توضيح موقع المؤسّسة الملكية خلال هذه المرحلة التأسيسية.
تداخل بين الدعوي والسياسي في الوثيقة التي تعرّف الجماعة بأنها "دعوية تربوية"، وفي الوقت نفسه "حركة مجتمعية سياسية"!
وعندما يتعلّق الأمر بالنظام الدستوري الذي تقترحه، تكتفي بمبادئ عامة من قبيل أن السلطة التنفيذية يجب أن تكون في يد الحكومة وحدها، والسلطة التشريعية من اختصاص البرلمان فقط، والقضاء مستقلٌّ عن السلطتين، ولا حديث في الوثيقة عن سلطة الملك أو المؤسّسة الملكية. أما تنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث، وهو ما يساعد على تحديد وصف النظام، هل هو برلماني أو رئاسي تتركز فيه السلطة بين يدي من يوجد على رأس الجهاز التنفيذي، فلا جواب واضحا في الوثيقة التي تترك هنا الحبل على الغارب لكلّ مجتهد، ولعل هذا أحد أسباب الخلافات القوية التي فجرت حركة 20 فبراير/ شباط من الداخل، عندما رفضت "الجماعة" ومعها حزب "النهج" اليساري تحديد سقف مشروع الدولة الذي كانت تطالب به تلك الحركة الاحتجاجية.
وارتباطا بهذا الموضوع، لم تأت الوثيقة بأي توضيح لموقف الجماعة مما تُعرف في المغرب بـ"مؤسسة إمارة المؤمنين" التي لا تعترف بها الجماعة في أدبيّاتها، وهو ما عمّق الخلاف بينها وبين نظام الحكم. وفي المقابل، ما زالت الجماعة لم تتجاوز مفهوم الخلافة، رغم أنها أصبحت تنظُر إلى صورة الدولة وشكلها بمنطقٍ يتأسّس على الدستور، لكنها لم تحسم نهائيا وبوضوح في هذا المفهوم، الأمر الذي يجعل تطبيع النظام معها مستبعدا.
وفي ما يتعلق بالتمايز بين السياسي والدعوي، لم تأت الوثيقة بجديد في هذا الموضوع أيضاً. ورغم مرور أكثر من 20 سنة على تأسيس ما تسمى "الدائرة السياسية"، الذراع السياسي للجماعة، إلا أنها ظلت مرتهنة لذراعها الدعوي المتمثل في "الجماعة" التي تُرخي بظلالها على كل منتم لها، وتضعه تحت خدمة مشروعها الكبير القائم على الدعوة والتربية من أجل بلوغ مجتمع "العدل" والتحلّي بقيمة "الإحسان". ونجد هذا التداخل بين الدعوي والسياسي في الوثيقة التي تعرّف الجماعة بأنها "دعوية تربوية"، وفي الوقت نفسه "حركة مجتمعية سياسية"!
أمام الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه الساحة المغربية اليوم لا غرابة في أن تتحوّل وثيقة "العدل والإحسان" إلى صيحةٍ في واد
ورغم أن الجماعة تُعلن في وثيقتها أنها لا تريد احتكار الدين، وتدعو السلطة إلى عدم احتكاره، إلا أنها تترك الدين مجالا للتنافس في المجال السياسي، وهنا خطورة عدم فصل الدين عن السياسة. وطبعاً، لا أثر للحديث عن هذا الفصل في وثيقةٍ تَعتبِر "الإسلام مصدراً أساسيا للتشريع".
لا تجيب الوثيقة عن أهم سؤال، هو أفق العمل بها، فهل هي مجرّد محطة تمرين أخرى لإثارة النقاش العمومي واختبار نيات الفاعلين السياسيين الآخرين تجاه الجماعة وتصوّراتها، أم أن أفقها، كما يقول أصحابها، هو تأسيس توافق مجتمعي يؤدّي إلى تغيير موازين القوى من أجل تحقيق التغيير المنشود، أم هي خطوة نحو التحوّل إلى حزب سياسي، وهو أمر لا تنفيه قيادات الجماعة، رغم أنها تتحجّج بأن الشروط الموضوعية لتحقيق هذا التحوّل لم تنضج بعد؟
وتبقى هذه الوثيقة كما يقول أصحابها موجّهة إلى دائرة واسعة من المخاطَبين، وإلى كل من هو معنيٌّ بالتفاعل معها من هيئات سياسية ومجتمعية ونخب سياسية، وأمام الفراغ السياسي الكبير الذي تعيشه الساحة المغربية اليوم لا غرابة في أن تتحوّل إلى صيحةٍ في واد، لأنه يكاد اليوم لا يوجد في المغرب حزب قوي ومستقل يستند إلى قاعدة مجتمعية عريضة أو قوية، مثل ما هي عليه "العدل والإحسان"، قادر على مناقشتها أفكارَها، وبالأحرى مشاركتها إياها، أو التوافق معها حولها. ولعل الأهم في هذا المبادرة أنها بداية التفكير في تحرير قوةٍ مجتمعية كبيرة، كان يُعاب على الجماعة أنها كانت تكبّلها طوال العقود الماضية، ما أفسح المجال أمام طفيلياتٍ عديدة لاقتحام المجال العام. هي، إذن، خطوة مهمة على درب توضيح مواقف الجماعة ومراجعة بعض مسلّماتها وأفكارها، قد تُفرح بعضهم وتزيد مخاوف آخرين، وهو ما يدعوها إلى بذل مزيد من الجهد في الشرح والتوضيح، لتجاوز مرحلة الشك وطمأنة القلوب، "قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي".