العالم على صفيح ساخن
شكّل اعتماد القوى العظمى استراتيجية التنافس فيما بينها منعطفاً حادّاً في العلاقات الدولية في ضوء فتحها ساحات الصراع، لتشمل الكرة الأرضية والفضاء الخارجي معاً، وتجعلها كل قوة من هذه القوى ميداناً لتحقيق مكاسب جيواستراتيجية وجيوسياسية، مع العمل، في الوقت نفسه، على منع القوى الأخرى من تحقيق مكاسب في المجالين، الجيواستراتيجي والجيوسياسي، عبر العمل على إرباك حركتها بالعراقيل والقيود التقنية والاقتصادية ومحاصرتها بالتحالفات السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية.
أثار احتدام التنافس بين هذه القوى مخاوف العالم من انفجار مواجهة مباشرة بينها في ضوء النتائج الكارثية المتوقعة لمواجهةٍ كهذه، تخوضها دول وازنة في الإنتاج والاقتصاد والتجارة العالمية، يكفي أن نتذكر ما أحدثته حرب محدودة في أوكرانيا من أزمات في الغذاء والطاقة وسلاسل التوريد؛ وما نجم عنها من تضخّم ضرب العالم، لا تزال آثاره ماثلة، وتمتلك أسلحة فتاكة، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل.
بدأ التوجّه نحو التنافس بين هذه القوى على خلفية صعود الصين وتحوّلها إلى ثاني اقتصاد في العالم، مع قدرة عسكرية تقليدية متطوّرة، بما في ذلك ثلاث حاملات طائرات، ونووية متنامية، اعتبرتها الولايات المتحدة منافساً استراتيجياً، وسعيها لاحتلال موقع وازن في النظام الدولي، وتحرّكها لفرض هيمنتها على جوارها الجغرافي، ونهوض روسيا من كبوتها خلال فترة حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين (10/7/1991- 31/12/1999)، وانخراط الرئيس الروسي الجديد، فلاديمير بوتين، في تحدّي الولايات المتحدة والعمل على الحد من هيمنتها وسيطرتها عبر مواجهات جيوسياسية مباشرة في جورجيا وسورية وليبيا وأوكرانيا وأفريقيا.
مع قدوم الإدارة الديمقراطية برئاسة الرئيس بايدن، طوّرت الولايات المتحدة مقاربتها في التصدّي للنهوض الصيني عبر إقامة شبكة تحالفات واتفاقات أمنية وعسكرية
وقد ترتب عن انفجار هذا التنافس وتصاعده نشوء انقسام دولي حادّ: روسيا والصين، في مقابل الولايات المتحدة وأوروبا. المحور الأول يحرّكه استياء عميق من الهيمنة الأميركية المديدة على النظام الدولي وتوظيفه في تحقيق مصالحها، فيما تحرّك المحور الثاني مصالحه ومكاسبه التي حازها في ظل النظام الدولي القائم. يعمل الأول على تغيير توازن القوى القائم، رافعاً راية تصحيح الخلل في النظام الدولي القائم، والتحرّر من الهيمنة والسيطرة، بحيث يقود التغيير إلى نظام تعدّدي "عادل" يحقّق التوازن في الأدوار والمصالح. والثاني يعمل لتثبيت هيمنته وتكريسها، رافعاً راية الدفاع عن النظام الليبرالي القائم على القواعد في وجه النظم السلطوية، أو "الديمقراطية في مواجهة الاستبدادية"، وفق تعبير الرئيس الأميركي جوزيف بايدن.
أخذ التنافس بين هذه القوى صوراً عدة من التنافس الاقتصادي والتجاري إلى التسابق على الموارد الطبيعية، النفط والغاز، والمعادن، الثمينة منها مثل التيتانيوم والليثيوم والنيكل واليورانيوم، بشكل خاص، والتقنيات الدقيقة في مجال الاتصالات، مثل تقنيات المعلوماتية، والتقنيات الصناعية المدنية والعسكرية، مثل أشباه الموصلات النانوية، مروراً بالتنافس على كسب الحلفاء والمؤيدين. وهذا استدعى العمل من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية وعلى الأسواق وعلى طرق المواصلات، الممرات البحرية بشكل خاص، وخطوط النقل البري.
افتتح الرئيس الأميركي الديمقراطي، باراك أوباما، التوجّه نحو التنافس بين القوى العظمى بنقل أصول عسكرية ضخمة من الشرق الأوسط ونشرها في المحيطين، الهندي والهادي، للضغط على الصين عسكرياً واحتواء تحرّكها في بحري الصين الشرقي والجنوبي؛ والعمل على تأمين ممر ملقا المهم للتجارة الدولية، من جهة، والعمل، من جهة ثانية، على محاصرتها اقتصادياً من خلال توقيع اتفاقية "الشراكة العابرة للمحيط الهادي" مع أستراليا، وبروناي، وكندا، وتشيلي، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، وبيرو، وسنغافورة، وفيتنام، وسحب الرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، التوقيع الأميركي عليها وعمل على مواجهة الصين مباشرة عبر فرض شروط تجارية عليها كي يحدّ من الخلل في الميزان التجاري معها عبر إلزامها بشراء سلع أميركية بمبالغ تتجاوز مائتي مليار دولار، وفرض على سلعها رسوماً جمركية عالية، وسعى لإبعاد روسيا عن الصين.
فعّلت روسيا صناعتها العسكرية، وحصلت من كوريا الشمالية على قذائف للمدفعية والدبابات، ومن إيران على مسيّرات انقضاضية وصواريخ بالستية، ودعمت الانقلابات في غرب أفريقيا
ردّت الصين بتدشين مشروعها العملاق، الحزام والطريق، بالاتفاق مع دول في وسط آسيا وجنوبها لإقامة بنى تحتية: طرق، جسور، سكك حديد، موانئ ومطارات وقطارات فائقة السرعة، لتسهيل التبادل التجاري وفتح طرق آمنة لشحن السلع الصينية إلى جميع أنحاء العالم، والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، واتفقت مع أكثر من 150 دولة تُمثل ثلثي سكان العالم، و40% من الناتج الإجمالي العالمي، أقامت فيها مشاريع بمائة مليار دولار، كذلك أنشأت "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، برأس مال أولي قدره 50 مليار دولار، كي توفر تمويلاً بديلاً للبنك الدولي والبنوك الغربية، ضم 105 دول. وعملت، رغم عدم موافقتها على العدوان الروسي على أوكرانيا واعترافها بالنظام في كييف، على منع هزيمة روسيا في أوكرانيا بتقديم دعم صناعي عبر توريد تقنيات تصلح للصناعات المدنية والعسكرية، وقالت مصادر استخبارية غربية إن الصين تساعد روسيا في إنتاج طائرات من دون طيار هجومية وبعيدة المدى من نوع جاربيا، وتعمل على توسيع التبادل التجاري معها، واعتماد العملة الوطنية في هذا التبادل، وشراء كميات كبيرة من الغاز والنفط الروسيين، وقد اعتبرت مصادر غربية أن روسيا باتت تابعة للصين اقتصادياً، وعملت على إيجاد موطئ قدم لها في المحيطات البعيدة عبر إقامة قاعدتين عسكريتين على المحيط الهندي، واحدة في كمبوديا (ريام) وأخرى في الصومال (دورالية)، وحاولت إقامة واحدة في الإمارات، لكن توقف العمل فيها بضغوط أميركية، والتفاوض على إقامة قواعد عسكرية في غينيا الاستوائية على المحيط الأطلسي وأخرى في جزر سليمان على المحيط الهادي، بالإضافة إلى اتفاقات أمنية مع موريشيوس وكينيا وتنزانيا وسيشل تتضمن السماح برسوّ القطع البحرية الصينية في موانئها.
مع قدوم الإدارة الديمقراطية برئاسة الرئيس بايدن، طوّرت الولايات المتحدة مقاربتها في التصدّي للنهوض الصيني عبر إقامة شبكة تحالفات واتفاقات أمنية وعسكرية: اتفاقية أمنية ثلاثية مع أستراليا والمملكة المتحدة (أوكوس) واتفاقية الحوار الأمني الرباعي (كواد)، مع اليابان وأستراليا والهند، ونشّطت اتفاقية العيون الخمس مع المملكة المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. كذلك عقدت اتفاقيات عسكرية مع كل من الفيليبين والهند وبروناي والمالديف، ونفذت عشرات التدريبات والمناورات البحرية مع اليابان وكورية الجنوبية وإندونيسيا، وعقدت معها ومع تايوان عقوداً ضخمة لبيعها عتاداً عسكرياً أميركياً متطوراً، من جهة، ووظّفت، من جهة ثانية، وزنها في مجموعة السبع للضغط على الصين تجارياً لتقليص الواردات من الصين، ولعب دور في تمويل إنشاءات بنى تحتية في كل أنحاء العالم بإقامة تحالف "الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالمي" مع الاتحاد الأوروبي والاتفاق على توفير 600 مليار دولار بحلول عام 2027، وعملت على اعتماد الهند مورّداً بديلاً للصين، وعقدت اتفاقية لإنشاء ممر تجاري بحري برّي يربط الهند بأوروبا مروراً بالإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل، واتخذت قراراً بعرقلة حصول الصين على أشباه الموصلات النانوية، لما لها من دور في تطوير الصناعات الدقيقة المدنية والعسكرية.
وتحرّكت لاستفزاز روسيا عبر توسيع حلف شمال الأطلسي (ناتو) بضم مزيد من دول أوروبا الشرقية إلى الحلف والاقتراب أكثر فأكثر من الحدود الروسية بتطوير العلاقات العسكرية والأمنية مع جورجيا وأوكرانيا، تمهيداً لضمهما إلى الحلف، ودفعها إلى الرد وتوتير الأجواء في أوروبا، على أمل تحقيق هدف قديم بوقف استيراد دول الاتحاد الأوروبي الغاز والنفط الروسيين لإعادتها إلى الحظيرة الأميركية، عبر التحكم بسوق النفط والغاز إنتاجاً وتسعيراً، ولجم دعوات الاستقلال الأوروبية عنها، وردّت على العدوان الروسي على أوكرانيا بفرض عقوبات اقتصادية واسعة عليها، وعملت على منعها من تصدير الغاز والنفط إلى أوروبا وبقية الدول عبر التلويح بفرض عقوبات ثانوية على الدول التي تشتري الغاز والنفط منها. هذا إلى جانب تقديم دعم عسكري ومالي سخي إلى أوكرانيا لمنع روسيا من الانتصار عليها، وضغطت على الصين لمنعها من تقديم دعم عسكري واقتصادي إليها.
الصين ليست شريكاً عسكرياً يمكن أن يوفر الحماية والأمن، وروسيا تبحث عن النفوذ لمنافسة واشنطن، وليس الاصطدام بها
لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي، حيث فعّلت صناعتها العسكرية، وحصلت من كوريا الشمالية على قذائف للمدفعية والدبابات، ومن إيران على مسيّرات انقضاضية وصواريخ بالستية، ودعمت الانقلابات في غرب أفريقيا، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي شكلت تحالف الساحل، قدّمت إليها الأسلحة وأرسلت مدرّبين وقوات خاصة بديلة للقوات الفرنسية والأميركية التي طردت منها. وسعت، عبر التنسيق مع إيران ومليشياتها، وعبر العمل على تطبيع العلاقات بين النظامين، التركي والسوري، للضغط على القوات الأميركية في سورية، ودفعها إلى الانسحاب من شرق الفرات. وعملت مع الصين على تعزيز وزنهما الإقليمي والدولي بتوسيع مجموعة البريكس، بضم دول في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، إيران والسعودية والإمارات ومصر وإثيوبيا والارجنتين، إلى المجموعة، وتحريض الدول النامية على الغرب، وصياغة مصطلح الجنوب العالمي للتعبير عن الدول المستاءة من الهيمنة الغربية ومن تاريخ الغرب الاستعماري، واستغلتا أخطاء الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وتقاعسها في دعم السعودية في صدّ هجمات حركة أنصار الله (الحوثيون) بالصواريخ البالستية والمسيّرات على منشآتها النفطية ومطاراتها وفي مواجهة التغلغل الإيراني في العراق وسورية ولبنان واليمن، وشجعتها مع دول الخليج العربي الأخرى على الكفّ عن الاعتماد على الحماية الأميركية غير الأكيدة والدخول في علاقات تجارية معهما، بما في ذلك توريد الأسلحة وتوطين صناعتها على أراضيهم. وقد حققت المحاولة نتائج مهمة في ضوء تراجع ثقة الدول الخليجية بالسياسة الأميركية وبحثها عن بديل أو معادل في خطوة أطلق عليها وصف "التحوط الاستراتيجي".
علماً أنه ليس كافياً لضمان مستقبل آمن، لأن روسيا والصين لا تتبنيان خيارات الدول الخليجية، ولا تعتمدان الوسائل والخطط نفسها التي تخدم دول "التحوط". فالصين ليست شريكاً عسكرياً يمكن أن يوفر الحماية والأمن، وروسيا تبحث عن النفوذ لمنافسة واشنطن، وليس الاصطدام بها، وعلاقاتهما المتينة بإيران، الجار اللدود للدول الخليجية، تجعل حساباتهما حساسة والتزاماتهما هشة، لكنها، الدول الخليجية، ضمنت قبول المحورين المتنافسين بأنظمتها السلطوية، فقد تخلى المحور الغربي عن التبشير بالديمقراطية، ووجد فيها المحور الثاني أنظمة شقيقة على شاكلته، وباركا استمرارها تحت ذريعة قدرتها على توفير الاستقرار. وهذا ليس خبراً سارّاً للشعوب المقهورة؛ المقيدة حريتها والمهدورة كرامتها، بعد أن غدا التحرك الشعبي نحو التغيير لدى المحوريْن خطراً لا بد من احتوائه ولجمه وإنهائه.
لقد بلغ التنافس مرحلة خطرة بعد تحول الحرب في أوكرانيا من هدفها الأولي: حماية استقلال أوكرانيا، إلى تقزيم روسيا، وتلويح الأخيرة مرّات عديدة باستخدام الأسلحة النووية للرد على تهديد وجودي يمسّها أو يمسّ أحد حلفائها، والخطورة هنا أن روسيا تمتلك أكبر عدد من الرؤوس النووية في العالم، يواجهها تحالف غربي تمتلك دوله أسلحة نووية كافية لتدمير العالم عدة مرات.