سورية وشقاء الوعي
تعكس الإعلانات والتوقّعات السياسية والعسكرية، عن احتمال تمدّد عدوان الكيان الصهيوني البرّي نحو سورية، وجود "بورصة" مواقف وتوجّهات وتقديرات بشّأن التطوّرات المُرتقَبة على الأرض السورية، من إعلان غرفة عمليات "الفتح المبين"، التي تضم هيئة تحرير الشام والجبهة الوطنية للتحرير، المنضوية ضمن الجيش الوطني السوري، و"جيش العزة"، عن تحضيراتٍ لشنّ عملية عسكرية لاستعادة مدينة حلب وأجزاء من ريفي محافظتي حلب وإدلب، إلى تقديرات أطلقها معلّقون من المعارضات السورية عبر شاشات الفضائيات وفي صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية، يقول بعضها بوجود توجّه إسرائيلي إلى إقامة منطقة عازلة على خطوط التماسّ في الجولان السوري، يمدّها بعضهم لتشمل مساحات من محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، وتقديرات أخرى تقول بوجود نيّة إسرائيلية لاجتياح منطقة واسعة من الأرض السورية، تبدأ من حدود الجولان المحتلّ، لتنتهي عند بلدة السيدة زينب، جنوب العاصمة دمشق، ومطار دمشق، من دون دخول العاصمة، وتقديرات ثالثة تقول بوجود قرار إسرائيلي باجتياح يبدأ من حدود الجولان ويتّجه شرقاً عبر البادية السورية إلى الحدود السورية العراقية، وصولاً إلى شرق الفرات، حيث منطقة سيطرة "الإدارة الذاتية".
أرتبط إعلان غرفة عمليات "الفتح المبين" عن تحضيرات عسكرية لعملية كبيرة هدفها تحرير حلب وأجزاء من أرياف محافظتي حلب وإدلب بعاملين، عسكري وسياسي. ارتبط العسكري بقرار قادة الكيان الصهيوني القضاء على حزب الله، وإنهاء النفوذ الإيراني في سورية، عبر مهاجمة مواقع القوات الإيرانية وأذرعها الشيعية، العراقية والأفغانية والباكستانية، في الأرض السورية. أيّدت الإدارة الأميركية قرار القضاء على حزب الله ميدانياً بمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ المهمّة، مع مدّها بالذخيرة المناسبة لتحقيق هذا الهدف في لبنان. وارتبط العامل السياسي بالدعوة في مجلس الأمن إلى العودة لقرار مجلس الأمن 1559، الذي صدر يوم 2/9/2004، والقاضي بنزع سلاح المليشيات في لبنان، وتطبيقه على حزب الله. كانت الحكومة اللبنانية قد استثنت حزب الله من نزع السلاح عند صدور القرار، على خلفية أنّ سلاحه موجّه لتحرير الأرض اللبنانية التي تحتلها إسرائيل في مزارع شبعا وقرية الغجر. وقد ألحقت الضربات الصهيونية خسائر فادحة بالحزب بقتل معظم قيادته السياسية والعسكرية وتدمير جزء من ترسانته الصاروخية. وهذا جعل تمدّد العدوان الصهيوني نحو الأراضي السورية من أجل إتمام مهمّة القضاء على قوات الحزب فيها، وإخراج القوات الإيرانية وأذرعها الشيعية، العراقية والأفغانية والباكستانية، من الأراضي السورية، احتمالاً راجحاً، ودفع أطرافَ غرفة عمليات "الفتح المبين" إلى إعلان التحضير لتحرير حلب من سيطرة النظام، وطرد القوات الإيرانية وأذرعها من المحافظة، وأجزاء من ريفَي محافظتَي حلب وإدلب، والمشاركة في تحقيق هدف إنهاء الوجود الإيراني في سورية. تروّج هذه الأطراف وجود دعم غربي/ أميركي لعمليتها العتيدة، على خلفية وجود تقاطع مصلحي بشّأن هذا الهدف، التقديرات العسكرية، التي قالها أو كتبها معارضون سوريون عن تمدّد العدوان الصهيوني نحو الأراضي السورية، متطابقة مع موقف "الغرفة" لجهة وجود قرار إسرائيلي أميركي بإنهاء الوجود الإيراني في الأراضي السورية، وضرورة استثمار الموقف والانتقام من الحزب ومن إيران وأذرعها الشيعية، العراقية والأفغانية والباكستانية، على خلفية دورهما في إجهاض الثورة السورية. العامل الثاني، السياسي، هو ما يمكن أن يترتّب على إنجاز المهمّة العسكرية، بالقضاء على حزب الله، وإنهاء الوجود الإيراني في الأراضي السورية، وهناك فرص لتحقيق مكاسب سياسية للقوى المشاركة في "الغرفة"، تمنحها الصدقية وتكسبها ثقة المواطنين السوريين في الشمال الغربي، ما يسمح لها بالمحافظة على سيطرتها وحماية مشروعها الخاص وتوسيعه.
تستدعي اللحظة السياسية الاستعداد لمواجهة العدوان الإسرائيلي/ الغربي بكسر حالة الاستعصاء من طرفَي الصراع، النظام والمعارضة
واقع الحال أنّ سردية غرفة عمليات "الفتح المبين"، خاصّة جزئية وجود دعم غربي/ أميركي لعمليتها العسكرية المزمعة، تحتاج إلى أكثر من برهان وإثبات، لأنها النقطة الأكثر أهمّيةً وخطورة في السردية، لأنّ موافقة الإدارة الأميركية على العملية العسكرية ودعمها لا تمسّ إيران وأذرعها والنظام السوري فقط، بل تمسّ النظام التركي أكثر، النظام الذي لا يهمّه في الموقف سوى نقل المواجهة إلى شرق الفرات حيث "الإدارة الذاتية"، لتفكيكها والقضاء على ما يعتبره خطراً على الأمن القومي التركي، ويرى في قيام تعاون بين الإدارة الأميركية و"هيئة تحرير الشام" "قسداً" (قوات سوريا الديمقراطية) ثانيةً، وشوكةً أميركيةً أخرى في خاصرته، وستحرم تركيا من حلب التي تضعها ضمن المصالح القومية التركية. وهذا يفسّر تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي حذّر فيه من توجّه الكيان الصهيوني إلى احتلال العاصمة السورية دمشق، وتهديد الأمن القومي التركي بالتقدّم شمالاً نحو الحدود التركية. ربطت تقديرات معارضين سوريين تمدّد العدوان الصهيوني نحو الأراضي السورية بحماية "الإدارة الذاتية"، عبر فتح ممرٍّ من الجولان السوري المحتلّ إلى منطقة شرق الفرات، في اتهام صريح للأخيرة بالارتباط بالكيان الصهيوني، ما يسمح بتوقّع قيام القوات التركية بمهاجمة مناطق "الإدارة الذاتية" للقضاء على قوات "قسد" في حال بدأ العدوان الصهيوني على الأراضي السورية. هذا بالإضافة إلى تجاهل سردية "الغرفة" للوجود الروسي وردَّة فعل روسيا على عملية عسكرية هدفها تغيير خطوط السيطرة وطرد النظام السوري من مدينة حلب، ومن أرياف في محافظتَي حلب وإدلب.
لن تنظر روسيا إلى "العملية" باعتبارها عمليةً محدودةً على جزء من الأراضي السورية، بل ستضعها في سياق الصراع المحتدم بينها (ومعها الصين وإيران وكوريا الشمالية) وبين الولايات المتّحدة على النظام الدولي، وستعتبر هزيمة إيران وإنهاء وجودها في سورية إضعافاً لهذا المحور، لذا ستستخدم ما في ترسانتها العسكرية كلّه، من أسلحة وذخائر ذكية وغبية، من أجل كسر الهجوم (إن حدث)، والعمل على عكس العملية باتجاه ضرب مواقع قوى غرفة عمليات "الفتح المبين"، وانتزاع مناطقَ تحت سيطرتها. وهو ما ستنظر إليه تركيا بعين الرضا، من دون استبعاد احتمال المشاركة فيه. وقد بدأت القوات الروسية والإيرانية وقوات النظام السوري في الردّ المُبكّر في عمليات استباقية من القصف الجوّي بالمُسيَّرات الانقضاضية والقاذفات الثقيلة، والبرّي بالمدفعية والصواريخ الموجّهة.
في لحظة سياسية شديدة الخطورة لا تهدّد سورية وحدها، بل المشرق العربي برمّته، بوضعه تحت هيمنة إسرائيلية بقرار غربي/ أميركي
في لحظة سياسية شديدة الخطورة لا تهدّد سورية وحدها، بل المشرق العربي برمّته، بوضعه تحت هيمنة إسرائيلية بقرار غربي/ أميركي على وجه الخصوص، تتحفّز قوىً سياسية وعسكرية سورية معارضة للانخراط في عمل عسكري يصبّ في مصلحة عدوان إسرائيلي/ غربي للقضاء على حزب الله وإنهاء الوجود الإيراني وأذرعه الشيعية في الأراضي السورية، عمل عسكري يتناغم مع تحرّك العدوّ القومي للسوريين والعرب، الذي لم يكتفِ باحتلال أرضٍ سورية (الجولان)، بل وضمَّها إلى كيانه المغتصب، وزرع فيها المستوطنات، وأقام هناك المشاريع الزراعية والصناعية والسياحية، وفرض على المواطنين السوريين فيها التجنسّ بجنسيته أو التحوّل مواطنين من الدرجة الثانية. تتحفّز هذه القوى لتحرير أرض سورية من الاحتلال الإيراني، وهو هدف وطني مشروع، في تزامن مع عدوان صهيوني، توقيت شديد السوء. موقف صادم وشديد القسوة ترتّب على العداوة التي نشأت نتيجة استعانة النظام بإيران وأذرعها (حزب الله بشكل خاص) لصدّ المدّ الشعبي الذي أطلقته ثورة الحرّية والكرامة، ودعوتها إلى التغيير وتحرير المواطنين من القمع والاضطهاد والتمييز، وتحرير البلد من الفساد والهشاشة. نظام لم يهتم (أو يحترم) بالرابط الوطني الذي يجمعه مع شعبه، واستخدم ضدّه أصناف الأسلحة كلّها كي يحافظ على تسلّطه وسيطرته، لم يرَ بأساً بتدمير البلد وتشريد سكّانه، وإدخاله في حالة مدمّرة من الإرباك والترهّل والعجز، واستمرّ في سياسة الفرض والقسر من دون اعتبار لآدمية المواطنين بفرض شروط حياة دون مستوى البشر، عوز وفقر مدقع وانتهاك للكرامة، والإذلال وضياع الأمل بتحسّن الأوضاع، فساد واستحواذ على ما بقي في أيدي المواطنين من إمكانات من أجل الاحتفاظ بالسيطرة، ما وضع المواطنين في حالة يأس مطلق جعلهم يخرجون من جلودهم ومن انتمائهم الوطني بتقبّلهم لأي مخرجٍ من حالة الموت السريري ولو على حساب السيادة والكرامة الوطنية. هذا كلّه وهم يعلمون أنّهم خاسرون إن انتصرت إسرائيل أو انتصرت إيران. حالة شقاء وعي قاسية ومدمّرة ذاق النظام بعض مرارتها حين سلبه حلفاؤه صلاحياته، وحوّلوه ظلالاً باهتة لسلطة شكلية من دون وزن أو احترام، وحين أحسّ بفقد احترام حاضنته له، بعدما دهمها العوز وعضّها الجوع وأفقدها إحساسها بإنسانيتها، وهي التي ضحّت بفلذات أكبادها من أجله، تجسَّدت حالة شقاء الوعي لديه برغبته بإنهاء الوجود الإيراني في الأراضي السورية، على خلفية تغوّل إيران على صلاحياته ومنعه من ملاقاة الانفتاح العربي والغربي عليه، لكنّه، في الوقت نفسه، لا يستطيع قبول إنهاء الوجود الإيراني مقترناً بخسارة مساحات من الأراضي التي يسيطر عليها، خاصّة مدينة حلب، بحجمها ودورها في الاقتصاد السوري، مع احتمال أن تُفرَض عليه بعد هزيمة إيران وأذرعها حلول تفقده ادّعاءه الانتصار أو تجبره على الجلوس للتفاهم مع المعارضة والتنازل لها عن بعض صلاحياته، بعد أنّ ظلّ يصمها بالإرهاب سنين طويلةً، أو تدفعه إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني ثمناً لبقائه في السلطة ولتعويمه عربياً ودولياً.
في حين تستدعي اللحظة السياسية الخطرة التفكير والاستعداد لمواجهة العدوان الإسرائيلي/ الغربي بالتوجّه لكسر حالة الاستعصاء الداخلية من طرفَي الصراع، النظام والمعارضة، والبحث في خطوات تُخرج سورية من حالة الاستعصاء القاتلة التي خيّمت عليها منذ سنوات. يتجّه الطرفان، عوضاً عن استثمار حالة الخطر الصهيوني الداهم والبدء بالتحرّك لتطبيق بعض بنود القرار الدولي 2254، على أقلّ تقدير، وفتح المجال لحلّ سياسي حقيقي يحقّق وحدة سورية واستقرارها وكرامة مواطنيها، يتّجهان إلى عبثية الكلّ فيها خاسر. المطلوب من طرفي الصراع، النظام بشكل خاص، الذي تحرّك بحشد قوّاته على خطوط التماس استعداداً لصدّ هجوم غرفة عمليات "الفتح المبين" المرتقب، التحرّك وعدم هدر هذه الفرصة.