إيران ... أنا الذي ذهب بعيداً
إذا كان من حقّ النظام الإيراني أن يفكّر ويخطط ويعمل حماية للأمن الوطني لبلاده وتحقيق مصالح شعبه، كما تفعل جميع الأنظمة، فإن استخدامه هذا الحقّ ليس مفصولا عن حقائق الجغرافيا والتاريخ وتوازن القوى والمصالح والتشابك القائم بين المصالح المحلية والإقليمية والدولية. وكان هذا يستدعي حسابات استراتيجية شاملة وبعيدة النظر، كي يضمن سلاسة الحركة واستمرارية التقدّم وتحقيق الأهداف.
مشكلة نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنه تصرّف بتجاهل تام هذه المحدّدات والقيود؛ فقد بدأت قيادة هذا النظام مشروعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالخروج على مألوف السياسة، بدأت بالبطش بالجيش الإيراني، بذريعة أنه جيش الشاه، وأن معظم ضبّاطه قد تلقوا تدريبهم على أيد أميركية، حيث جرى إعدام أكثر من 400 من كبار الضباط، ما أضعف الجيش وأسّس الحرس الثوري بديلا له، قوة عسكرية موالية له وتلتزم بفكرة ولاية الفقيه. ثم التفت إلى الأحزاب، بما فيها أحزاب ناضلت ضد الشاه، أيّدت الثورة الإسلامية وشاركت في إسقاطه، ومنها فدائيو إسلام ومجاهدو خلق، التنظيمان اللذان لعبا، بما كان لديهما من خبرات في حرب عصابات المدن، دوراً كبيراً في شل قدرات الجيش الإيراني على قمع التظاهرات الشعبية وسحق الثورة والحزب الشيوعي الإيراني (تودة). وأعدم بفتوى من الخميني ما بين ثمانية آلاف وثلاثين ألف معتقل سياسي. وتابع النظام، في مرحلة تالية، ضرب بقية الأحزاب، حركة تحرير إيران، لم يكتف بإضعاف الحزب الذي تسلم أحد قادته رئاسة أول حكومة بعد الثورة مهدي بازركان (1979 - 1980)، وفيه عدد من آيات الله، مثل محمود طالقاني، بل وأعدم بعضهم، منهم صادق قطب زادة، الذي تسلم وزارة الخارجية (1979 - 1980)، بتهمة التخطيط للانقلاب على النظام الإسلامي. السبب الحقيقي لإعدامه معارضته ولاية الفقيه.
وحدّدت قيادة النظام قواعد نظامها السياسي باعتماد نظام ولاية الفقيه وثبّتته في الدستور الجديد. كما كسرت قواعد العمل السياسي الدولي بالإعلان عن عدائها للشرق والغرب، كان شعارها الأول في هذا المجال "لا شرقية ولا غربية". وأوقفت عمل مصانع كثيرة بذريعة أنها ستربط اقتصاد البلاد بالخارج، عبر توريد المواد الأولية والخبرات وقطع الغيار... إلخ، وحدّت من العلاقات الاقتصادية مع الخارج، الغرب بشكل رئيس، لأن علاقات نظام الشاه كانت معه، وتبنّت سياسة "تصدير الثورة ونصرة المستضعفين" وكرّستها في الدستور. صحّرت الحياة السياسية داخلياً واستعدت الخارج سياسياً واقتصادياً، وبدأت التدخل في شؤون دول الجوار والتحريض على الأنظمة القائمة فيها، الأنظمة التي فرحت لتخلّصها من نظام الشاه، الذي لعب دور شرطي المنطقة بالاتفاق مع إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، وأثارت سياسة النظام الجديد قلقها وخوفها وتحرّكه لتغيير أنظمتها تحت شعار تصدير الثورة ونصرة المستضعفين، وردّ على تحفظها على سياسته بتحريض أتباع المذهب الشيعي في بلادها مستثمراً مظلوميات يعانون منها، وباعثاً المظلوميات القديمة التي عانى منها أتباع هذا المذهب في التاريخ الإسلامي، ووضع الانتقام لمظلوميات الحاضر والماضي هدفا لهم. حرّض المجتمعات الشيعية ودفعها إلى التحرّك ضد أنظمتها تحت لافتة الثأر للحسين.
كسرت إيران قواعد العمل السياسي الدولي بالإعلان عن عدائها للشرق والغرب، كان شعارها الأول في هذا المجال "لا شرقية ولا غربية"
ومن طرائف تلك المرحلة توزيع رئيس النظام العراقي صدّام حسين أجهزة تلفزيون على سكان القرى والبلدات المحاذية لإيران، في محاولة لكسب قلوبهم. وحصل أن زار إحدى القرى، وسأل رجلا من أبنائها عن رأيه في هدية التلفزيون، فأجابه الرجل: "يطوّل عمرك، كنا نسمع الإمام الخميني فأصبحنا نسمعه ونراه". قاد التحريض الإيراني ضد الأنظمة العربية إلى شن النظام العراقي هجومه على الأراضي الإيرانية، مانحاً النظام الإيراني فرصة ثمينة لا تعوّض لشد العصب الوطني وحشد الشعب الإيراني حوله بعد أن كان الفتور قد بدأ ينتشر بينه نتيجة قلقه وهواجسه من سياسات النظام الجديد. ونجح النظام الإيراني في إطار استراتيجيته لتصدير الثورة في اختراق مجتمعات دول الجوار بدعم التشكيلات والأحزاب الشيعية القائمة، مثل حزب الدعوة في العراق وحركة أمل اللبنانية وحزب الوحدة الأفغاني، وأسّس أحزابا جديدة، منظمّة بدر وحزب الله اللبناني وحزب الله السعودي ... إلخ، نظّمها ودرّبها وسلّحها لخدمة خططه ومصالحه الجيوسياسية. قال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، إنه أقام عشرة إيرانات خارج إيران.
لم يستقبل النظام الدولي، الشرق والغرب، النظام الإيراني الجديد بترحاب، وعمل الغرب على عزله والتخطيط لإسقاطه. وحصلت مواجهات دبلوماسية وسياسية ومحاولة عسكرية أميركية يوم 25/4/1980 لتحرير رهائن السفارة في طهران في ما عرف بعملية صحراء طبس الفاشلة. ودفع هذا النظام إلى التفكير في مخرج من الحصار وتوفير سياج حماية، فتبنّى خيار الضغط على الدول الغربية بخطف رعايا منها وتنفيذ عمليات إرهابية في معظم الدول الغربية وعدة دول عربية، الخليجية تحديدا، 60 عملية عام 1984 وحده، ووضع الكيان الصهيوني، ابن الغرب المدلّل، رهينة لردع الغرب عن مهاجمته عبر حشد قدرات بشرية وعسكرية من دول وقوى حزبية موالية كأحزمة نارية جاهزة لضرب إسرائيل ردّاً على أي عدوانٍ غربيٍّ على إيران. غطى استراتيجية أمنه الوطني برفع لواء تحرير القدس وذلك لجذب مزيد من الأنصار والمقاتلين العرب السنة والشيعة.
قاد التحريض الإيراني ضد الأنظمة العربية إلى شن النظام العراقي هجومه على الأراضي الإيرانية، مانحاً النظام الإيراني فرصة ثمينة لا تعوّض لشد العصب الوطني وحشد الشعب الإيراني حوله
استثمر النظام الإيراني إشرافه على تشكيل وتدريب وتسليح وتمويل المليشيات الشيعية، وفصائل سنية، كحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين والجماعة الإسلامية في لبنان، قبلت العمل معه في إطار استراتيجيته تطويق الكيان الصهيوني بأحزمة نارية، بعدما جمعها وأدار تحرّكاتها باعتبارها في محور تابع سماه محور المقاومة، استثمره في توفير سويّة عالية من الاستقرار والأمان الداخلي وفي توسيع نفوذه الإقليمي والانخراط في مفاوضات سياسية مع القوى الخارجية من موقع قوة. وأتاح له محور المقاومة عبر قيامه بمهمة الردع والتشويش والاستفزاز وإرهاب أنظمة دول الجوار اعتماد نهج النَفَس الطويل المسمّى "الصبر الاستراتيجي" في التعاطي مع التطورات الإقليمية والدولية. غير أن هذه التطورات لم تترك له خيارات سهلة، فإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحبت من الاتفاق النووي، واستخدمت معه سياسة الضغط القصوى لدفعه للقبول باتفاق نووي بديل. شلت العقوبات اقتصاده وضربت عملته الوطنية وعزلَتْه عن النظام المالي الدولي، وقتلت أيقونته قاسم سليماني. ما أضعف موقفه وجعله يبحث عن مخارج جانبية، كالضغط على النظام العراقي لإخراج القوات الأميركية من أراضي العراق، ودفع مليشياته اللبنانية والعراقية والسورية إلى التحرّش بالقوات الأميركية في سورية، وزاد في كميات ونسب تخصيب اليورانيوم، والانفتاح على الشرق بعقد اتفاقية استراتيجية طويلة المدى مع الصين مدتها 25 سنة. وسعى مع عودة الإدارة الديمقراطية إلى الحكم في الولايات المتحدة إلى العودة للاتفاق النووي، مع تعديل بعض بنوده، من دون نجاح، فلجأ إلى الضغط على الإدارة الأميركية عبر الانخراط في العدوان الروسي على أوكرانيا بتزويد روسيا بطائرات مسيّرة من طراز شاهد 136 وصواريخ متوسطة المدى. ووضعته عملية طوفان الأقصى في موقف دقيق على خلفية عودة الولايات المتحدة إلى الاهتمام بالمنطقة: المشاركة في القتال والدخول في حرب مباشرة مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة أو النأي بالنفس وخسارة ثقة محور المقاومة به وبخطته المسماة "وحدة الساحات". وعاد إلى توظيف مليشياته في إسناد حركة حماس والضغط على المجتمع الدولي لوقف الحرب في غزّة عبر دفع حركة أنصار الله الحوثية إلى إغلاق باب المندب وشل التجارة الدولية بعرقلة سلاسل التوريد.
ترتب على هذا تغيير موقف الإدارة الأميركية من النظام الإيراني، بتبنّي خيار حل مسألة هذا النظام مرّة واحدة، عبر السماح للكيان الصهيوني بإنهاء حضوره في دول الجوار وتجريده من أوراق القوة التي يعتد بها. كان الدافع غير المعلن للتفويض الأميركي للكيان الصهيوني الخوف من أن تصبح إيران، بتعداد سكانها الكبير والمتعلمين تعليماً عالياً، على المديين القصير والمتوسط، قوة إقليمية قوية ومستقرة، قادرة على تحدي طموحات الكيان الصهيوني الإقليمية وتشكيل المنطقة بأسرها وفق مصالحها. وعليه، شنّ الكيان الصهيوني حربه على النظام الإيراني ومليشياته، حزب الله اللبناني بشكل خاص، قتل أمينه العام ومعظم قيادات الصفين الأول والثاني من السياسيين والعسكريين، والمليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية والحوثية، تحت شعار "إجراء تغيير استراتيجي في المنطقة". وقادت تداعيات المواجهة الشاملة إلى تبادل الضربات المباشرة بينه وبين الكيان الصهيوني، بعدما شعر أن الأوضاع قد بلغت مرحلة الخطر المصيري، ما كشف عن ضعف قدراته العسكرية، وخاصة الدفاع الجوي الذي دمّرته طائرات الكيان.
قاد انكشاف أمن النظام بعد إجهاض خطّته ردع الكيان الصهيوني والغرب بعصا مليشياته التي تحيط بالكيان إلى التلويح بتغيير عقيدته النووية، والذهاب نحو امتلاك سلاح نووي، أعلن عن تركيب مئات أجهزة الطرد الحديثة، كما أعلن عن استعداده لمقايضة تقليص مخزونه من اليورانيوم المخصّب تخصيباً عالياً برفع العقوبات الاقتصادية. وهو ما لم يلق استجابة مناسبة من الدول الغربية، رفعوا ضدّه شكوى لمجلس محافظي وكالة الطاقة النووية التي أصدرت إدانة لممارساته ومواقفه، فبات من حقّ هذه الدول تفعيل بند "سناب باك"، الذي يسمح بإعادة فرض ستة قرارات أصدرها مجلس الأمن لمعاقبته على خلفية إنشاء برنامج نووي سرّي. لذا لجأ إلى تخفيض سقف مطالبه بالعمل على إقناع الإدارة الديمقراطية بتحسين العلاقات واستعادة الثقة من دون جدوى. كان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قد أعلن في أثناء حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة تصريحات اتّسمت بالليونة والاستكانة، إلى حد وصفه للأميركيين بـ"الإخوة"، ودعا للعودة إلى العلاقات الطبيعية بين نظامه والولايات المتحدة، من دون جدوى.
تصرّف النظام في إيران بتجاهل تام للمحدّدات والقيود؛ فقد بدأت قيادته مشروعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالخروج على مألوف السياسة
اعتمد النظام الإيراني استراتيجية من ثلاث حلقات: تشكيل مليشيات مذهبية وتدريبها وتمويلها وتسليحها، برنامج صواريخ بالستية قادرة على الوصول إلى الخصوم، برنامج نووي سلمي مع إمكانية تحويله إلى برنامج عسكري. غير أن المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني، الذي حصل على دعم غربي مباشر، كشفت هشاشة هذه الاستراتيجية، حيث نجح الكيان في ضرب خط الدفاع الخارجي بضرب "حماس" وحزب الله، ونجح في إفشال هجومه بالمسيّرات والصواريخ المجنّحة، كما كشف بضربته أخيراً ضعف الدفاعات الجوية، ووضعه في حالة انكشاف استراتيجي، تآكل ردعه وثبت عدم توفر إمكانية لديه للفوز في حرب مع الكيان. انهارت استراتيجيّته، فغدا مصيره متوقّفا على صمود حزب الله وقدرته على مواصلة القتال، حتى يقبل الكيان الصهيوني بوقف إطلاق النار، والذهاب إلى اتفاق ينهي حالة الحرب. ورغم استعادة حزب الله توازنه وإلحاقه خسائر جسيمة بقوات الكيان، إلا أن هذا لا يعني أن النتيجة النهائية باتت مضمونة، وأنه سينجح في مواصلة القتال حتى تحقيق الهدف المنشود: فرض وقف الحرب من دون هزيمة صريحة؛ فالاحتمالات كثيرة.
تكمن مشكلة النظام الإيراني في تبنّيه استراتيجية سياسية وعسكرية من دون الاعتبار بدروس التاريخ؛ حيث لا يمكن لقوة إقليمية ناشئة تحدّي العالم كله، أو تحدّي قوى عظمى من دون ظهير من قوى عظمى أخرى. هذا درس تجربة محمد علي باشا في مصر الذي تحدّى القوى العظمى، فجُرّد من جميع عوامل القوة، وأعيد إلى حدود ولايته العثمانية. وحيث لا يمكن لقوة إقليمية ناشئة تحدّي قوى عظمى وجهاً لوجه. درس من تجربة اليابان التي اصطفّت خلف الولايات المتحدة وأكلت، في الوقت نفسه، من حصتها في الاقتصاد وسوق التقنيات والابتكارات. وحيث لا يمكن لقوة إقليمية ناشئة، وهي في طور بناء قوتها الذاتية، تحدّي قوى عظمى. ... في رواية "الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي منولوغ يسأل فيه الشيخ نفسه، بعد أن اصطاد سمكة أبو سيف أكبر من قاربه، فربطها على جانب القارب، فهاجمتها أسماك القرش والتهمتها ولم تبق له سوى العظام، من الذي هزمك؟ ويردّ على نفسه: لا أحد، أنا الذي ذهب بعيداً.