السيدة التي غابت عن حفلة نتنياهو
ليست كامالا هاريس نائبةً للرئيس الأميركي بايدن فقط، وإنما أيضاً رئيسةُ أحد مجلسي الكونغرس، الشيوخ. ما يعني، بحكم موقعها هذا (أو وظيفتها هذه)، أن تكون إلى جانب زميلها رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، خلف ضيف الكونغرس المتوّج، بنيامين نتنياهو، في حفلة أول من أمس المشهودة. وما يعني، أيضاً، أن تشارك في مهرجان التصفيق، جلوساً ووقوفاً (80 مرّة في 55 دقيقة). ولكن السيدة غابت، لالتزاماتٍ مسبقة في جولةٍ في البلاد تقوم بها. لم تُقاطع كما فعل أكثر من 120 نائباً وشيخاً من زملائها في الحزب الديمقراطي، في موقفٍ منهم ضد نتنياهو الذي لا يريد إنهاء الحرب في غزّة، وإنما غابت، وكان في وُسعها أن "تعدّل" في برنامجها، وتكون في المقعد الذي آثرت السيناتور من الحزب الديمقراطي، الرئيسة الفخرية لمجلس الشيوخ، باتي موراي، أن لا تجلس عليه، على غير ما يفرضُه عليها موقعُها البروتوكولي في غياب رئيس المجلس، انسجاماً منها مع موقفها ضد استضافة الرجل الذي يحفل أرشيفُه بخلافاتٍ وفيرةٍ مع أركان الحزب الديمقراطي، الحزب الذي رأى سيناتورٌ منه، يهوديٌّ إذا لزم التأكيد، اسمُه بيرني ساندرز (81 عاماً)، بعد مهرجان الكونغرس لنتنياهو، أن الأخير ليس مجرم حربٍ فقط، وإنما أيضاً كاذب. ثم رسا الخيار على ديمقراطيٍّ متحمّسٍ للضيف العتيد، ولحرب الإبادة في غزّة، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس، السيناتور بنجامين كاردن، ليجلس على المقعد الشاغر، ويصفّق كما يشاء.
لم يبتعد النائب الجمهوري، سكوت بيري، عن الحقيقة، لمّا قال إن كامالا هاريس تهرّبت من خطاب نتنياهو، لاسترضاء المتظاهرين ضد الحرب الإسرائيلية في غزّة. وليس بعيداً عن الصواب أن يُقال إن "أجمل مدّعٍ عام في أميركا"، كما كان أوباما يصف السيدة هاريس، اتّخذت خطوةً على بعض الذكاء، في لحظة انتخابية حرجة، في غيابها عن عُرس نتنياهو ذاك، فصورتُها تصفّق خلف المجرم الكاذب (ليس تعبيرَها طبعاً) كان سيضرّها في أوساط أميركيين عرب ومسلمين وملوّنين، بل وأميركيين عديدين، بينهم يهودٌ ليسوا قليلين. وبحسبةٍ ما، أيُّ مكسبٍ من صورةٍ كالتي لم نرها سيكون أخفّ وزناً مع المحصول الطيّب في "غيابٍ" مطبوخٍ، مدروس، متقن، عن الحفل الدعائي ذاك، وليغضب معتوهٌ اسمُه نيوت غينغريتش (رئيس مجلس النواب السابق) رأى في خطوة هاريس "تحيّزاً منها إلى جانب حماس". وعندما تجتمع المرأة المُرتقب ترشّحها لمناطحة ترامب على البيت الأبيض مع نتنياهو، فإنها لا تُغادر تموقعها التقليدي، نصيرةً عتيقةً لإسرائيل، وهي التي يضجُّ أرشيفُها بمواقف تساند دولة الاحتلال، بتطرّفٍ، في غير مناسبة، وإن كانت تقولُ ما تقول عن دعمها "حلّ الدولتين".
صحيحٌ أنه ليس بين القنافذ أملس، لكن هذا قولٌ مضادٌّ لجوهر السياسة الذي يقوم على الفعل في مناطق المغايرة والاختلاف، فإذا كان من البديهي أن هاريس ظلت في الإطار التقليدي لإدارة بايدن التي ساندت حرب الإبادة في غزّة، فذلك لا يمنع القول إن ثمّة حيّزاً يخصها، يمكن البناء عليه من أجل دفعها إلى مواقف أكثر تقدماً. وهناك حاجة قصوى لأن تعرف الجاليات المسلمة والعربية ومن أبناء العالمثالثيين والآسيويين أن تصعيد كامالا هاريس إلى رئاسة الولايات المتحدة يُنجي العالم من السيد دونالد ترامب معلوم الوجهات والعناوين، والمجرَّب في غير شأنٍ ومسألة، ناهيك عن شعبويّاته المشهودة، وإن يقول من يقول إن المُؤمن لا يُلدغ من جُحر مرّتين، فلشدّ ما كانت حماستنا لبايدن ليصير الرئيس، ثم تتابعت الخيبات منه، سيّما وأنه لم يصنع شيئاً يستحقّ عليه تقديراً، ثم جعلتنا حرب غزّة، وقد واكبها فخامتُه بالحديث المتكرّر عن صهيونيّته، نلعن سذاجتنا لمّا صدّقنا أن مقادير معقولةً من الوداعة في إدارته ستجعلها أقلّ صقوريةً من مثيلةٍ لها برئاسة ترامب، بشأن إسرائيل وغيرها.
السيدة ذات الأصول الملوّنة، من أسرتين مهاجرتين، الأم من الهند والأب من جامايكا، تباهت في حضورها مؤتمرات لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) بمساهمتها في دعم الصناديق اليهودية الزرقاء المخصّصة لجمع التبرّعات لزراعة الأشجار في إسرائيل التي زارتها غير مرّة، وهي متزوّجة من يهودي نشط في جمع التبرّعات لدولة الاحتلال ... ومع هذا كله، وغيره كثير، كانت بادرةً طيّبةً منها تجاهنا، نحن الذين يجب أن نشتغل ضد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، أنها "غيّبت" نفسَها عن حفلة نتنياهو في الكونغرس ... وإذا راكمت مبادراتٍ أخرى، من الحسَن، بل الضروري، إسنادُها ضد شعبويٍّ مقيت اسمُه ترامب.