الساحرة المستديرة في ذاكرة شخصية
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تتعدّد علاقتنا بكرة القدم، سواء في تذكّرها عبر المشاهدة، أو عبر الممارسة التي تعود، في معظمها، إلى أيام المراهقة والشباب، أو من خلال القراءة. في سياق المشاهدة الشخصية، أتذكّر مباراة المغرب وألمانيا عام 1986، حين صعدت المغرب أول مرة إلى دور الـ16، ولسوء حظها قابلت فريقاً في غاية القوة. رغم ذلك، لم يتمكّن الألمان من إحراز الفوز إلا بشقّ الأنفس وفي الوقت الحساس (الدقيقة الـ87). كنت حينها طالباً في المرحلة الثانوية. أتذكّر الشعور بحزن شديد وسوداوية انتابتني عدة أيام. وقد التقطت الذاكرة أسماء لاعبين، منهم الحارس بادو الزاكي والعزيز بودربالة واللمريس وتيمومي وخيري. ولاحقاً، حين حللت طالباً على الرباط، صادفت اللاعب عبد المجيد لمريس، الذي تجمعه علاقة بالصديق والفوتوغرافي المغربي أحمد بن سماعيل. أتذكّر حين عرفني إليه بن سماعيل ذات صباح في مقهى، وقد كان معتزلاً اللعب، هتفت لا شعورياً بلقبه "لمريس"، سعد بأن اسمه ما زال معروفاً في المشرق العربي.
جدّد الفرحة العربية الفريق المغربي في مونديال قطر. كأنما جاء بعد عقود ليكمل مشوار أسلافه الذي توقف عند الحدود الأولى لدور الـ16 بإشعال روح الفرحة في مختلف ربوع الوطن العربي. في مباراة المغرب وإسبانيا، كان بجانبي عُماني ستّيني في المقهى، حيث اعتدت أن أشاهد المباريات المهمة. وما إن انتهت المباراة بفوز المغرب قام من مكانه، متخلياً عن وقاره وشرع يرقص طرباً كطفل أمام المشاهدين، وكأنهم جزء من عائلته أو بعض معارفه. الغريب أنه لم يزر المغرب من قبل، إنما فعل ذلك فقط لأنه بلد عربي، كما حدث معي، بصورة معاكسة، في مباراة المغرب وألمانيا في مونديال المكسيك في 1986، فلم أكن قد زرت المغرب بعد، إنما كان شعوراً فطرياً حزيناً بسبب هزيمة منتخب عربي.
هناك كذلك علاقة مهمة بكرة القدم، تتعلق بالأدب. صادفت قصصاً وروايات كانت كرة القدم جزءاً من أجوائها، ولكن أكثر عمل أدبي ما زال عالقاً في ذاكرتي رواية ممتعة قرأتها، في التسعينيات، وترفض أن تفارق ذاكرتي، "ضربة جزاء" للجزائري رشيد بو جدرة. وأنا من عشّاق رواياته التي قرأتها مبكراً، منها "الحلزون العنيد" و"ألف عام وعام من الحنين" و"التطليق"، وهي روايات تمتاز بقوة بنائها، فرغم أن بوجدرة كان يقيم في فرنسا، إلا أنك تشعر، وأنت تقرأ له، بأنه لم يجامل الفرنسيين أو لم يكتب متغزّلاً ومسايراً المزاج الغربي الذي تهمّه أكثر تلك الروايات التي تُبرز الجانب المظلم والمتخلف من حياتنا. وكانت "ضربة جزاء" من أهم هذه الروايات التي تتصف بجمالياتها الفنية ولغتها العالية. كان البطل، في إطار دفاعه ضد الاستعمار الفرنسي، يستخدم كرة القدم دفاعاً مضموناً، فقد خطّط للانتقام لمقتل عائلته (وبالتالي أبناء وطنه) بقتل عميل جزائري للفرنسيين كان يشاهد المباراة. ولأنه انطوائي مسالم، ولا يعرف غير التدخين وبكفاءة، وكأنه يدخن سيجارة طويلة بأنفاس متقطّعة، ولكنه حين اضطر إلى التنفيذ، أتقن تكتيك "اللعبة"، ومن أجل إنجاح مشروعه الانتقامي، وتسديد الهدف القاتل في صدر الخصم، يلجأ بطل رواية بوجدرة إلى "خطّة" أو تحدٍّ إذا أمكنه أن يبلغه فإنه يستطيع بعد ذلك أن ينفّذ مشروعه الانتقامي بشجاعة ودون توتر.. كانت أن يملأ، على مدار عدة أيام، جيوبه بالسّجائر، لكنْ من دون أن يدخّن منها واحدة، وهو المدخّن الشره. وكان، حين تلحّ عليه الرغبة في التدخين، يشتري علبة جديدة، لكنْ من دون أن يفتحها، كما هو الحال مع سابقاتها. امتلأ معطفه بالعلب ودخل في صراع التحدّي أياماً. وبعد أن انتصر على نفسه ورغباته ولم يدخّن تأكد، حينئذ فقط، من أنه يستطيع أن يسجّل "هدفه". خلع معطفه في شقته الصغيرة حيث يسكن، وأخفى مسدسه ودخل الملعب. وفي ختام المباراة، أصابت رصاصةٌ العميل الذي نوى بطل الرواية، وهو الراوي، قتله، من دون أن يبدو أنه من أطلق الرصاصة من مقعده بين المتفرّجين، وبدت أنها ضربة جزاء.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية