الذبح إسلامي .. والمقاطعة تطرف إسلامي!

27 أكتوبر 2020

دعوة إلى مقاطعة البضائع الفرنسية في متجر في صنعاء (26/10/2020/فرانس برس)

+ الخط -

إذا كنتَ ممن تخطوا مرحلة المراهقة، فأنت تعلم يقينا أن تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بخصوص الإسلام، هي مزايدات سياسية لا علاقة لها بالإسلام ذاته، أو بالعلمانية الفرنسية، على تطرّفها، أو بالثقافة وفق أي مفهوم. لا يتمسك ماكرون بالرسومات والكاريكاتيرات المسيئة للنبي من أجل الفن وحرية التعبير، بل من أجل منصبه وكرسيه، والتغطية على إخفاقاته الاقتصادية، وفشله في تجاوز أصحاب السترات الصفراء، وهي وصفةٌ سهلةٌ ومجرّبةٌ ومكرّرةٌ ومضمونة، المسلمون متطرفون، انعزاليون، انفصاليون، خطرون، يقتلوننا، يذبحوننا، وأنا من يحميكم، فانتخبوني!

ماكرون، هنا والآن، هو عبد الفتاح السيسي في مصر، وبشار الأسد في سورية، وفرانك أندروود في "هاوس أوف كاردز". جميعهم حامي حمى الوطن من خطر الإرهابيين الأشرار، المسلمين طبعا، الذين لا يحبون الفنون والموسيقى والكاريكاتير، ولا يبتهجون بشتيمة الله وأنبيائه. وحين يقف الرئيس "الفرنسي" في جنازة معلم التاريخ "الفرنسي" الذي قتله شاب مسلم "فرنسي"، وفق حالة يمينية، فرنسية بالأساس، ليتخلّى عن أي تحفظ سياسي ودبلوماسي، ويصرّح، في صبيانية، إننا، أي هو ومن معه، متمسّكون بالرسومات، فهو لا يقصد سوى الرسومات المسيئة للنبي، أو بالأحرى للمسلمين الغاضبين، ولا يدفع سوى باتجاه الاستثمار السياسي في مزيدٍ من الهوس والتطرّف والإرهاب، وهو ما حدث بالفعل بعد طعن السيدتين المسلمتين في باريس.

الإرهاب جريمة، والمسلمون في أزمة، والغربيون أيضا، ذلك كله مفهوم. ولكن ذلك كله لا علاقة له، بشكل مباشر، بما يحدث في هذا العالم المعقد والكئيب، والمفيرس بما هو أخبث من كورونا. يستخدم ماكرون الإسلام بالطريقة نفسها التي استخدمه بها مواطنه عبد الله أنزوروف، قاتل مدرّس التاريخ. الفارق أن ماكرون كذّاب، يعرف أنه كذلك، ولذلك يجيد التخفي خلف حرية التعبير. أما أنزوروف فحمار، ركبوه وساقوه ورفسوا به من أرادوا، ثم تركوه ليموت بدلا منهم.

الإسلام، إذن، هو الحائط المائل، الحلقة الأضعف، يستخدمه الغربيون والدواعش. بالأحرى يستخدمه الغربيون بالدواعش. والمكاسب مضمونة، والخسائر مستبعدة، دول الأغلبيات المسلمة في سبات، الشعوب لا قيمة لها، الحكام وكلاء للمصالح الغربية، ولا خوف منهم، أو عليهم، لن ينطق أحد، ولن يغضب أحد، ولن يتأذّى أحد، ولن يطالب مواطنون أو شيوخ أو قادة رأي رؤساءهم وملوكهم وأمراءهم بشيء، ولم يسمح حاكمٌ لأحدٍ بأن يطالبه بشيء، فالسجون موجودة والإعدامات موجودة والاتهامات موجودة، ومحمد العريفي ووسيم يوسف وخالد الجندي وآخرون، جميعهم موجودون، والعروش مستقرّة، والأمن مستتب، فلماذا لا يسبّ لنا ماكرون الدين والدنيا، ويلعن "سنسفيل" جدودنا!

تجاوز المسلمون الإدانة الواجبة للجريمة، وانشغلوا بمناقشة مهاويس آخرين رأوْا في قتل معلم التاريخ تصرّفا شرعيا، وأوشك المولد أن ينفضّ، حتى ظهر ماكرون من جديد ليخرج لسانه للجميع. ظهرت دعوات مقاطعة البضائع الفرنسية، عفوية، عاطفية، غير منظمة، مجرّد محاولة لتفادي مزيد من الصفعات، من دون الرد الذي لا نقدر عليه، مجرّد إجراء رمزي للتعبير عن رفضنا أن نكون "لا شيء"، لا أحد يأبه لنا، لا الغربيون، ولا من يحكموننا، مجرّد محاولة، بعيدا عن الجريمة ورفضنا القاطع لها، محاولة تستهدف ماكرون وتصريحاته، لا المدرس، شهيد مهنته، ولا حرية التعبير، ضحية التعسّف في استعمال الحق، بالتحايل السياسي الرخيص، مجرّد "تنفيسة"، استجاب لها قليلون، شكرا لهم لأنهم ما زالوا على قيد الحياة. بدأت المقاطعة، على خفيف، وبدت إمكانية تحولها إلى كرة ثلج. هنا فقط، تراجع الفرنسيون، قليلا، عن خطابهم السياسي غير المسؤول، وغير المحترم، وغير السياسي، وأصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانا سريعا تطالب فيه حكومات الدول الاسلامية بوقف حملة مقاطعة منتجاتها، وتصف المقاطعة، وكذلك الهجمات الإرهابية التي تتعرّض لها فرنسا، بأنها سلوك لـ"أقلية" راديكالية متطرّفة! الرسالة واضحة، ذبح من أساء إلى النبي مرّة، أساء إلى النبي ودينه وأتباعه مرّات، فيما كان الرد السلمي على إساءات ماكرون أذكى، وأكثر فاعلية، ودفع الفرنسيين إلى اختيار مفرداتهم بواقعية، من قبل أن تتحوّل المقاطعة نفسها إلى واقع.