التغيرات المناخية .. ناقوس الخطر

24 اغسطس 2022
+ الخط -

أدّت موجة الحر الشديدة المستعرة في شمال أفريقيا إلى اندلاع حرائق كبيرة في كل من الجزائر والمغرب، قتلت نحو 38 شخصاً في الجزائر وأربعة في المغرب، وأتت على عشرات آلاف الهكتارات من الغابات في البلدين. وعلى الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، اندلعت حرائق كبيرة وغير مسبوقة في غابات إسبانيا والبرتغال وفرنسا سبّبتها درجات الحرارة التي سجلت معدّلات قياسية في أكثر من دولة أوروبية، بلغت مستوى 40 درجة حرارية في لندن، مثلاً، وشهدت أنهار أوروبا الكبيرة، بما فيها نهر الراين الذي يعدّ أحد أهم الأنهار وأطولها في القارة الأوروبية، انخفاضاً تاريخياً في منسوبها إلى درجة بات قعر النهر الذي يعبر عدة دول أوروبية مكشوفاً. وفي أميركا جفت بحيراتٌ عديدة كانت تشكل مورداً للسقي والشرب، واستحالت إلى برك من الملح. وشهدت بلدانٌ مثل السعودية والإمارات وموريتانيا والسودان، المعروفة بطقسها الحار والجافّ، خصوصا في فصل الصيف، سيولا كبيرة أدّت إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، كما ضربت الرياح العاصفية المحمّلة بالأمطار أكثر من دولة، فالأمر لا يتعلق بمجرّد تقلباتٍ في المناخ، اعتدنا أن نشهدها كلّ صيف، جرّاء ارتفاع درجات الحرارة وتأثيرها السلبي على تشكّل الكتل الهوائية التي قد تتحوّل إلى عواصف وأعاصير، وإنما نحن أمام ناقوس خطر، ربما يكون الأخير بعد جائحة كورونا، تدقّه الطبيعة لتنبهنا إلى حالة الطوارئ المناخية الملحّة، وتحذّرنا من اللامبالاة القاتلة في مواجهة الكارثة التي تلوح في الأفق، خصوصاً أمام النقص الواضح في ردود الفعل السياسية في مواجهة حالة الاحتباس الحراري الذي يشهده كوكبنا، فما نشهده تغيير مناخي يترسّخ تدريجياً، ويصبح الاستثناء فيه هو القاعدة في جميع العالم، إذ تؤدّي الأسباب نفسها إلى النتائج نفسها، بسبب ارتفاع درجات الحرارة المرتبط بالأنشطة البشرية، ما يجعل الطبيعة تثور وتعبر عن غضبها بالأساليب العنيفة والمدمّرة التي نشهدها اليوم في أكثر من بلد لا تستثني الفقير والغني منها. وإذا ما استمرّ العالم في لامبالاته فإن التحدّي في المستقبل سيكون مزدوجاً، لا يتمثل فقط في مواجهة الاحتباس الحراري المتزايد، وإنما في مكافحة آثاره المدمرة والمفاجئة، والتي لا يمكن التنبؤ بها أو بحجم أضرارها.

إذا ما استمرّ العالم في لامبالاته فإن التحدّي في المستقبل سيكون مزدوجاً، لا يتمثل فقط في مواجهة الاحتباس الحراري المتزايد، وإنما في مكافحة آثاره المدمرة والمفاجئة

المفارقة الأولى غير السارّة التي تحملها هذه التغيرات المناخية أن الدول التي ساهمت أكثر من غيرها في المشكلة هي في الغالب التي تعاني من عواقب محدودة، وغالبا ما تكون قادرة على التحكّم فيها واحتوائها، في حين أن الذين ساهموا بأقل قدر هم، في الغالب، الأكثر تضررًا وضعفًا في مواجهتها. وهذا هو ثاني أكبر تحدٍّ يواجه العالم، بعد تحدّي التحولات المناخية، أي الحد من الظلم المناخي ومعالجته، لأنّ من يؤدّي فاتورته اليوم هي الشعوب الفقيرة والضعيفة التي لا ذنب لها فيه، ولا تملك ما تواجه به خطره المدمّر.

والمفارقة السيئة الثانية أن التغيرات المناخية تسير بسرعة أكبر من التغيرات في الدهنيات التي ما زالت تشكّك في نظرية الاحتباس الحراري، وبدلا من الإسراع في تدارك الزمن المهدور لضمان مستقبلٍ قابل للعيش، فإنّ الاتجاه العام في أكثر من دولة غربية يسير نحو العودة بنا إلى استغلال الوقود الأحفوري، بسبب الحرب في أوكرانيا، من دون الاكتراث لانعكاساته السلبية الكبيرة والمدمّرة على المناخ.

التحولات المناخية الكارثية والمدمرة التي شهدناها هذا الصيف، وقد نشهد ما هو أخطر منها في مقبل الأيام، هي بمثابة رسائل تحذيرية من الطبيعة التي لم تعد مضيافة بالشكل الذي ألفناه، وهذا خطأنا الجماعي الناتج من الأنشطة البشرية التي تؤدّي إلى نفث مزيد من الغازات المسبّبة في الاحتباس الحراري. ففي العام الماضي أدت حرائق الغابات في البرازيل وأستراليا وفي الغرب الأميركي إلى تدمير ملايين الهكتارات من الغابات التي تعد بمثابة رئة الأرض التي تتنفّس بها. وكل سنة يسجل علماء المناخ والبيئة تحوّلات كبيرة في درجات الحرارة، وينبهون إلى الاقتراب من مستوى حالة الخطر الذي ستكون عواقبه كارثية بدرجة لا يمكن أن تصدّق.

عندما جرى التوقيع عام 2015 على اتفاقية باريس لمكافحة تغير المناخ، وُضع هدف الحفاظ على درجات الحرارة العالمية عند مستوى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، لكننا اليوم مطالبون بمضاعفة التخفيضات مرّات عديدة لبلوغ هذه العتبة التي يعتقد العلماء في حال تجاوزها ستصبح حرائق الغابات والفيضانات وفقدان التنوع البيولوجي وارتفاع مستوى البحار وتشرّد البشر أكثر تدميراً مما شهدناه حتى اليوم. ومع الأسف، لا شيء ينبئ بأنّ البشرية تسعى إلى الوصول إلى هذا المعدّل أو حتى البقاء دونه.

العالم آخذ في التدمير إذا لم تخفَّض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكل كبير في السنوات المقبلة

يبدأ التغير البيئي، أولاً، من الحكومات لسنّ التشريعات التي تراعي الحفاظ على البيئية، قبل ذلك، لا بد من الاهتمام بالتثقيف المناخي للمواطن، حتى يعي أنّ تغير المناخ يمثل أكبر تحدٍّ لحياته وسيؤثر بشكل كبير على مجتمعه بطرق معقدة ومتعدّدة. فالتغير الحاصل في المناخ هو، في نهاية المطاف، نتيجة عملية معقدة من التحوّلات الكبيرة التي شهدتها مجتمعاتنا، ولا يمكن السيطرة عليها من دون معالجة للتغيرات المجتمعية التي تسبّبه والتعامل بشكل أفضل مع التحديات التي تطرحها. وتغيير سلوكنا الاجتماعي والإنساني في كل من السياقات الفردية والاجتماعية هو العامل الحاسم في المسارات المستقبلية لتغير المناخ والحدّ من خطورته مستقبلا، فالتغير المناخي لا يؤدّي فقط إلى تدمير الطبيعة، ويزيد من الخسائر الاقتصادية التي تؤدّي بدورها إلى الهجرة والجوع وانهيار الصحة العامة جرّاء انتشار الأمراض والأوبئة، وإنما يؤدّي بطريقة غير مباشرة وغير مرئية إلى تدمير الانتماء الثقافي والهويات الفردية والجماعية. وفي المجتمعات المتقدّمة، تكون له آثار واسعة النطاق على رفاهية الإنسان، والتي ستنعكس على الهياكل الاجتماعية وأساليب الحياة، ما قد يؤدّي إلى تعقيد أزماتنا الاجتماعية والبيئية وتعميقها مستقبلاً. الحاجة إلى التغيير ضرورة حتمية لم يعد في وسعنا الهروب منها، لأنّ البديل هو الكارثة إذا لم ننتبه إلى أجراس الخطر التي تدقّ على شكل كوارث طبيعية، ما زال الإنسان قادراً على التحكم فيها.

العالم آخذ في التدمير إذا لم يجرِ خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بشكل كبير في السنوات المقبلة، هكذا يعتقد علماء البيئة. لكن يبدو أنّ هذه الرسالة لا تصل إلى ناسٍ كثيرين ما زالوا يشكّكون في ظاهرة الاحتباس الحراري، وعدم الاكتراث هذا يبطئ المبادرات التي ينبغي اتخاذها للحد من آثار تغير المناخ قبل فوات الأوان، فالوقت يمرّ والمستقبل لا يبشّر بالخير للبشرية، لأنّ الأسوأ لم يأتِ بعد!

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).