الأزمة الليبية ... تتعدّد الاجتماعات والنتيجة واحدة
لا يزال الوضع السياسي في ليبيا يشوبه كثير من الغموض والتوتر وعدم الاستقرار، الأمر الذي يجعله عصياً على الإحاطة بتفاصيله المتغيّرة التي تتشكّل وفقاً لتحالفات داخلية غير ثابتة، تعكس السياسات الإقليمية والدولية للدول المتداخلة فيه، التي تتباين موافقها وفقاً لمصالحها، لتحقيق الاستفادة القصوى من استمرار الأزمة من خلال المجموعات الداخلية التي ترعى مصالح هذه الدول، وتعمل على تنفيذ مخططاتها. ومن الملاحظ أنه بالرغم من فترة الهدوء والأمن النسبي الذي تشهده البلاد، شرقها وغربها في الفترة الأخيرة، والناتج من تقاسم النفوذ في ما بين أطراف الصراع، ورضى كل طرفٍ بحصّته من المناطق التي يتحكّم فيها وتخضع لسيطرته، ولقناعة الجميع بأن الحرب لا يمكن أن تؤدّي إلى توسيع مناطق السيطرة أو رسم خريطة أخرى مختلفة للنفوذ، ما لم تكن بموافقة الدول الكبرى التي أصبحت لا تخفي تدخّلها المباشر في الوضع الليبي، وتحكّمها في ملفاته الداخلية والخارجية، إلا أن المخاوف من تجدّد الصراع لم تتبدّد، ولا سيما في ظل الجمود السياسي المستمر الذي لا تزال الانتخابات المنشودة فيه حلماً بعيد المنال.
ومن الجدير بالذكر أن اللقاءات غير العلنية والمستمرّة بين حكومة عبد الحميد الدبيبة، التي يمثلها مستشاره السياسي ابن أخيه (إبراهيم الدبيبة) وأبناء حفتر، واستضافتها عواصم عديدة، كانت عاملاً مهماً في تحقيق هذا الاستقرار، غير أنها، في الوقت ذاته، أدّت إلى ظهور خلافات داخل كل من المعسكرين الشرقي والغربي. ففي الشرق، رغم السيطرة الكاملة لحفتر، ليس على المستويين، العسكري والسياسي فقط، بل على الجانب الاقتصادي أيضاً، من خلال استثمارات عسكرية يشرف عليها أبناؤه مباشرة، إلا أن محاولات السيطرة على مجلس النواب والتحكّم في قراراته أوجدت نوعاً من الاحتقان بينهم وبين عقيلة صالح الذي وجد نفسه في مواجهتهم المباشرة بعد انتقال مجلس النواب من طبرق إلى بنغازي، الأمر الذي جعله يفكّر في الاستقالة، حسب ما سرّبه قريبون منه، بعد أن أصبح جلّ النواب، وخصوصاً نواب المنطقة الشرقية، يأتمرون بأمر حفتر وأبنائه دون سواهم.
العسكر ولجنتهم المسمّاة 5+5 اختاروا هم أيضاً اللقاء خارج الوطن، فكانت باريس وجهتهم!
كما في شرق البلاد، هو الحال في غربها، فالهدوء النسبي الذي تشهده المنطقة مردّه سيطرة المليشيات وتقاسمها النفوذ في ما بينها على المناطق الرئيسية في العاصمة، الذي أنتج وضعاً هشّاً قد ينفجر بمجرّد اختلاف مسلّحين على بوابة تفتيش تقام من دون موافقة الحكومة، بل من دون علمها، أو استعراض للقوّة من إحدى المليشيات في مناطق نفوذ مليشيا أخرى. أما حكومة الدبيبة، فيبدو أنها تسعى للمحافظة على هذا الوضع الراهن الذي يضمن لها الهدوء والاستقرار، وبالتالي الاستمرار في عملها، وهي تعي جيداً أن مصيرها مرهونٌ بمدى إرضاء قادة هذه المليشيات وعدم التدخّل في شؤونها. ولم تكتف الحكومة بذلك، بل عملت على شرعنة هذه المليشيات من خلال ضمّها وحدات أمنية حكومية، ضمّاً صورياً يضمن لقادتها ومنتسبيها الحصول على المزايا المالية التي تجعلهم يدافعون عن وجود هذه الحكومة واستمرارها، حتى ولو أدّى ذلك إلى استخدام ترسانة السلاح الذي يملكونه خارج سيطرة الدولة، كما حدث عندما حاول فتحي باشاغا الدخول إلى العاصمة طرابلس.
أما ما تُعرَف بلجان المصالحة، فهي لا تزال تعيش كغيرها من الأجسام الأخرى على أزمة البلاد، من دون أن تحقق أياً من أهدافها التي وضعتها لنفسها، وسوّقت للخارج قبل الداخل قدرتها على تحقيقها، واقتصرت مهامها على اجتماعات هنا وهناك، لتلتقط صوراً وتلقي بيانات وتصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع سياسي امتد أكثر من عقد. اجتماعات، رغم كثرتها، لم تغيّر من الواقع شيئاً، ولم تساهم، ولو بقدر بسيط، في إيجاد قواسم مشتركة يمكن أن تؤدّي إلى تسوية سياسية لإنهاء الصراع على السلطة في بلد تتقاذفه أمواج الصراعات وتتحكّم في مصيره دول عديدة. أما اجتماعات هذه اللجان، فعلى غرار اجتماعات مجلسي الدولة والنواب، غالباً ما تكون خارج الوطن، حيث حطت رحالها هذه المرة في الكونغو برازفيل لتعقد اجتماعها الذي اختارت "المصالحة الوطنية برعاية الاتحاد الأفريقي" عنواناً له، اجتماعات استمرّت أياماً أعادت ما أدمن الليبيون سماعه، من قبيل المؤتمر الجامع، المصالحة الوطنية الشاملة، الاستفادة من تجارب الدول التي مرّت بنزاعات وتحقّقت فيها المصالحة الوطنية، مشاركة الجميع، عدم إقصاء أحد، ضرورة الوصول إلى الانتخابات، وغيرها من عبارات مستهلكة لا يملّ المشاركون في هذه اللقاءات والمشرفون عليها من تكرارها، رغم يقينهم بأنها لم تعد تعني لليبيين شيئاً، وأصبح يُنظر إلى هذه اللجان كغيرها من الأجسام التي تعيش على الاختلاف، وتعوّل عليه وتستمد وجودها واستمرارها من الأزمات التي تعيشها البلاد، حتى أصبحت جزءاً من المشكلة، وبالتالي لن تكون ساعيةً إلى أي حل.
لم يهتمّ كثيرون من الليبيين بما جرى في برازفيل أو في باريس، ليقينهم بأن متصدّري المشهد لن يتنازلوا عن مكاسبهم
العسكر ولجنتهم المسمّاة 5+5 اختاروا هم أيضاً اللقاء خارج الوطن، فكانت باريس وجهتهم التي اجتمعوا فيها برعاية فرنسية وبحضور رئيسي الأركان في الشرق والغرب تحت عنوان "مساعي توحيد المؤسسة العسكرية". استمر الاجتماع يومين، ولم يتسرّب عنه سوى منح الرئيس الفرنسي، ماكرون، وسام الشرف لأعضاء هذه اللجنة الذي اجتمع بهم مؤكّداً أن هذا الاهتمام (يندرج ضمن دعم فرنسا الحوار بين الجهات الفاعلة الأمنية في ليبيا) حسب تصريحه. اهتمام فرنسي فسّره مراقبون كثيرون بتركيز الحكومة الفرنسية على الملف العسكري، ليمكنها، من خلاله فرض نفسها بعد أن سحب البساط من تحت أقدامها أخيراً، ولا سيما أنها عُرفت بمواقفها الداعمة لحفتر، ومشاركتها في دعم قواته المسيطرة على المنطقة الجنوبية التي تعتبرها فرنسا مناطق نفوذ استراتيجي لها، يجعلها قريبة من أفريقيا التي شهدت كثير من دولها تمرّداً على وجود القوات الفرنسية فيها، وأصبحت أصواتٌ كثيرة تنادي عالياً بضرورة خروجها.
خلاصة القول أنه منذ بداية الأزمة في ليبيا تعدّدت اللجان وتكررت الاجتماعات، ولم يُكتب لأي منها أي نجاح، بل زاد كثير منها من اتساع الفجوة، وكرّس مفهوم الانقسام وعزّز صور الكراهية بين أبناء الشعب، الأمر الذي جعل ليبيين كثيرين لا يعوّلون على هذه اللجان، ولا ينتظرون حلاً من هذه الاجتماعات. ولهذا، لم يهتمّ كثيرون منهم بما جرى في برازفيل أو في باريس، ليقينهم بأن متصدّري المشهد لن يتنازلوا عن مكاسبهم، تنفيذاً لتوصيات أو بيانات تصدر من هذه اللجان، ولم ولن يدّخروا جهداً في عرقلة أي توافق من شأنه أن يقود إلى انتخابات ستنهي مزاياهم، وأنهم وإن كانوا في الظاهر يسوّقون أن ملامح الأزمة تتمحور حول الخلافات بشأن الدستور وقواعد الانتخابات وشكل الحكومة الانتقالية، ولا يتركون مناسبةً إلا ويستغلها جميعهم في تأكيد حرصهم على إجراء الانتخابات باعتبارها رغبة الليبيين جميعاً، إلا أن واقع الحال ينطبق عليه قول الشاعر معروف الرصافي:
لا يخدعنك هتافُ القوم بالوطن/ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن.