أمّي في رمضان

08 ابريل 2024

(محمد المليحي)

+ الخط -

تستقبل الوالدة شهر الصوم بطريقتها، تفرش قبيل الغروب حصيرتها في بهو الحوش، تحت شجرة التوت التي تطلب مني (في هذه الأيام) أن أنفضها لها كل يومين أو ثلاثة لتسقط ثمراً صبغيا أحمر، ألتقطه من الأرض أو أقطفه من بين أغصانه الدانية، ثم أطلق عليه الماء لينزاح ما علق به من غُبار، فيكون ضمن مائدة الإفطار. تحت رأسها المنحني، تقسم المصحف إلى أجزاء بخطوط عريضة تناسب مستوى بصرها في عمر ينسلخ من العقد التاسع. يجب أن يكون الخط كبيراً. لديها نسخ كثيرة من المصاحف، ودائما بالخط العريض الواضح، أسود تحته بياض ليضيئه. لا تتوقّف في رمضان عن التلاوة ما أن تستفيق، بين نوماتها المتقطعة طوال اليوم. تختم القرآن في شهر الصوم أكثر من خمس مرّاتٍ أحيانا. تنتقل بالمصحف أو الجزء بين الغرفة والصالة والحوش. لا تنقطع القراءة إلا في أثناء الصلوات أو بدخول ضيف، تجفل لتنظر إلى الزائر عبر زجاج عدستيْها، فتبدو كأنما خرجت من عالم إلى آخر. 
تؤدّي واجب المصافحة وقليلا من الحديث، قبل أن تعود إلى تلاوتها. تقرأ بصوت مسموع وتقف عند بعض الآيات حين أكون بجانبها، أو حين يكون أحد من أبنائها في دائرة محيط تلاوتها. تشرع، في أثناء تلك الوقفات، بالشرح السريع أو بإطلاق كلمة "مسكين" في تفاعل مع معاناة شخصيات إحدى القصص القرآنية. وعند الآيات الكريمة التي تُذكر فيها الثمار، فإنها تستطرد في استمتاع بالحديث وكأنما ترى تلك الصور عيانا، يمكنها، مثلاً، الحديث عن السيدة مريم ونخلتها "وهزّي إليك بجذع النخلة تسّاقط عليك رطبا جنيا". ومع آيات العذاب يضعُف صوتُها حزناً وترسل لسانها بالنصح والتذكير. وحين يُذكر الشياطين تكرّر اللعن عليهم.
ثمّة عذوبة في قراءة الوالدة، حفظها الله، القرآن الكريم، لأنها تقرأ وهي تصوّر بذهنها، والجالس بقربها، وغالبا ما أكون أنا، يشعر كأنه يستمع ويرى بخياله ما ترسمه تفسيراتها. تُكمل بعض الآيات التي لا يسعفها النظر بالتقاط حروفها وكلماتها بالاستعانة بذاكرتها التي تجود سريعا وبسلاسة في مثل هذه المواقف. يكفي فقط أن تلتقط بداية الكلمة في الآية القرآنية، لتكمل ذاكرتها عبر لسانها اللاهج بالذكر ما تبقى منها. في لحظة الإفطار، ترسل سمعها إلى الخارج لتتلمّس صوت الأذان، عليها أن تتأكّد بنفسها من سماع نداء الإيذان بالإفطار. قبل ذلك، تكون قد غسلت حفنة من التمر بوعاء الماء بقربها، ثم تفلق التمرات وتحرّر النويات المحبوسة. تدع التمرات في وضع استعداد للمضغ، حين لا أسنان تُسعف. تختار التمرات الأكثر طراوة. 
تمتاز مائدة الوالدة عادة بالبساطة في أوفر تجلياتها. كل شيء يجب أن يكون طبيعيّا ومحليّا، وإن كان قليلا. لا تثق إلا بما تراه وتلمسه يداها. تأتي بالحبوب من قريتي في هلا أو منح، حيث توجد مزارع أهلية صغيرة هناك. ولا تشرب من الثلاجة، إنما تضع ماءً يبرد ببطء في قلّة من الطين، تغطيها بقحفة صلعاء لجوز هند فارغة. السكّر أيضا محلّي أسمر، وكذلك القمح. يمكن الحديث أيضاً حتى عن الملح الذي تطلبُه كسراتٍ بحريّة صلبة. لا طعم  للملح إن لم ينتم للبحار العُمانية. والحليب مما تجود به غنمتها في أقصى الحوش، أو تطلب حليب "مزّون" العُماني، وإن أخطأ الشاري مثلاً وجلب حليبا من ماركة أخرى، فإنها ترفضه قطعا. يوجد في خلفية الحوش قفص للدوابّ، أرضه ترابية، مقسّم بين الأغنام والدجاج الذي يفرق البيض، حيث تجد الوالدة شيئاً منه متناثراً في الصباح على أرضية القفص. لا تقرب البيض إلا مما يجود به قفصها. وبالنسبة للزيت، لا تعرف إلا زيت الزيتون الذي يأتيها من قطاع غزّة عن طريق موزّعين محليين. ينطبق الأمر أيضا على أكل الدجاج واللحم، الذي لا بد أن يكون عُمانيا، وحتى وإن تطلب الحصول عليه  طول انتظار. في الليل، بعد التراويح، تعود إلى القراءة. قبيل الثالثة بعد متنصف الليل، تجرّ خطاها إلى المسجد القريب من أجل التهجّد.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي