ألماس .. من وجوه الطفولة

04 يوليو 2022

(تيسير بطنيجي)

+ الخط -

هناك وجوه في طفولة كلّ واحد منا يصعب نسيانها، أو بصورة أدقّ، لا يمكنها أن تموت، وإنْ توارت عن الوجود، وكأنّ الزمن يكافئها، فيمنحها الحق في الظهور، لتطفو، بين حين وآخر، على سطح الذاكرة. أتذكّر جيداً العم ألماس في سوق مطرح، ذلك الكهل أسمر البشرة، الذي يقطن في عمق إحدى الحارات الخلفية لمطرح، أظنها الزبادية أو خب السمن. كان يمرّ على دكّان والدي مرتين كلّ يوم تقريباً؛ يسلم عليه في الصباح، وهو في طريقه إلى عمله، يمكُث معه عدة دقائق على مصطبة عامرة دائماً بالتمر والقهوة، إذ كانت أمّي تعد القهوة في الصباح الباكر، ليحملها أبي معه إلى دكانه. كان ألماس يجلس صامتاً وهو يقتات من صحن التمرات، ثم يعبّ فنجانين من القهوة الساخنة، قبل أن يشقّ طريقه إلى سوق السمك. لم يكونا يتحدّثان، هو وأبي، إلا نادراً، فألماس خجول جداً إلى درجة أنني كنت أظنه نصفَ أبكم. وعند الظهيرة، أراه عائداً، وقد ارتسمت على محياه علامات التعب وخريطة دم متيبّس تنتشر في ملابسه، تثير الريبة في من لا يعرفه .. أحياناً، كان يحمل في يده كيساً فيه رؤوس مقطوعة، عشرات من رؤوس الدجاج، يؤرجحها في مشيته. يسأله أبي عنها، فيجيبه ألماس بأنّها طلبية من امرأة عجوز تستخدمها علاجاً!
يتقدّم ألماس بمحاذاة المبنى الذي يلوح من قمته رأس طاحونة هواء تركها كهنة الإرسالية الأميركية وراءهم منذ عهد. كنت أتأمل تلك الطاحونة، بأذرعها الثلاث الهائلة، من دكّة الدكان في لحظات انتظار الزبائن. وأستطيع أن أقدّر من خلالها اتجاه الرياح، إن كانت شرقية أو غربية، لكنّها، في لحظات كثيرة، تكون بلا اتجاه وأجنحتها الثلاثة ساكنة، وكأنها تشاطرني لحظات الضجر .. يشقّ ألماس طريقه بمحاذاة مستشفى اﻹرسالية الأميركية، الذي كان يوماً محجّاً من كلّ ولايات عُمان يعتصم فيه النصراني طومس، الطبيب ذائع الصّيت. عن يساره تكون عمارة طالب اﻷثرية، بمحلاتها الهندية، تتبعها البناية اﻷثرية التي كانت قنصليةً لفرنسا ذات عهد. لا يهتم ألماس بكلّ تلك الآثار قدر اهتمامه بالسماء. كان يستشعر الوصول من خلال التقلبات التي تحدُث أمامه في الجو، والتي تبدأ بطيور الحقم، المنتشرة قرب البيوت، ثم بالغربان، التي تقفز من أسطح دكاكين السوق، ثم تتناطط متحفزة بين أرجل العابرين بحثاً عن فرصةٍ سانحة. وعند اﻷفق البعيد، تحوم النوارس التي يتكاثر عددها كلما اقتربت خطواته من البحر. يدخل سوق الظلام فتحتجب السماء ويبدأ لهاثه يتصاعد في صدره. يوزع بعض التحايا الخجولة يمنةً ويسرةً على التجار المقرفصين على عتبات محلاتهم. وعند انتهاء سقف السوق، تظهر السماء مرّة أخرى، مرصّعة بأرتال النوارس وهي تزعق. ينتهي طريق سوق الظلام بفتحة "خور بمبه" التي تشبه عينا مائية تتلصّص على السوق من أسفل الجسر. ينعطف يساراً ويشقّ طريقاً طويلة تتضوّع برائحة البحر الصباحية، وتتحد الزرقة بسحب النوارس البيضاء الثائرة، التي تبدو كأشرعة، وهي تحوم فوق القوارب العائدة من رحلات الصيد ..
تنتهي خطواته إلى الميناء، حيث سيأخذ مكانه بين بائعي السمك. كان له مكان مميز بين مقطعي السمك في ساحل مطرح، وهو الوحيد المختلف عنهم، لأنه لا يتعامل إلا مع الدجاج. يكون في إحدى يديه كذلك كيسٌ فيه عملات ورقية كثيرة من فئة المئة بيسة، يحتاجها أبي في دكانه. ولأن الثقة كانت كبيرة في ذلك الوقت، فإنه يكتفي بأن يقول لأبي إنّ في الكيس ما مقداره أربعة ريالات، مثلاً، فيسُلّ أبي أربع ورقات من درجه، ويأخذ منه الكيس ويُفرغ محتوياته الورقية الصغيرة في الدرج نفسه. أحياناً، كان أبي يغيب عن الدكان لحظة رجوع ألماس من عمله، فيُعطيني الكيس بصمت ويكمل طريقه. وحين يعود أبي وأخبره عن أمر الكيس، يطلب مني أن أعدّ المبلغ فأرى الأوراق النقدية، وقد اصطبغ بعضها بالدم. وفي الصباح الموالي، يعطيه أبي أوراقاً مكتملة مقابل ما تركه من ورق منثور. رحل العمّ ألماس بصمت شديد، يشبه ذلك الصمت الذي رافقه طوال حياته.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي