هاني القاضي: طبيب وسط الدمار

29 يوليو 2024

هاني القاضي (يمين) وطبيبان من زملائه في أحد مستشفيات قطاع غزّة (وسائل التواصل)

+ الخط -

قال الطبيب العُماني هاني القاضي، القادم أخيراً من شمال غزّة، إنّه مُستعدّ للعودة إلى هناك، ولكن المرّة هذه مُحمّلاً برغبات كثيرين من الطواقم الطبّية العُمانيّين للانضمام إليه. بعضهم، كما قال، من الذين لا علاقة لهم بأمور الطبّ والجراحة، يتمنّون الذهاب، وفعل أيّ شيء للمساعدة حتّى في أمور التنظيف، ما يدلّ على قدسية الحدث في ضمائر الناس.
"لا يمكن لأيّ إنسان لديه ذرّة من الكرامة أن يرفض الذهاب لمساعدة أهلنا في غزّة، فما بالك وأنا طبيب، وتخصّصي هو جراحة الحوادث". هذا ما قاله القاضي لقناة الاستقامة العُمانية (في برنامج من تقديم عادل الكاسبي)، إثر عودته من أخطر منطقة في غزّة، وهي منطقة الشمال، المنطقة المخنوقة بعد نزوح الأهالي منها إلى جنوب غزّة، وكانت الأكثر قصفاً وتدميراً وعزلةً وعرضةً للموت اليومي.
"لا أمان مع الصهاينة". قال القاضي إن كثيرين رفضوا النزوح من الشمال إلى الجنوب لعلمهم أنّه حتّى النازحين يُستهدَفون ويُقتَلون، حتّى بعد أن يعبروا الحواجز التي يفترض أن تكون آمنة، ما يدلّ على أنهم أمام عدو لا يعرف غير القتل، ولا يلتزم حتى بأدنى المعايير الإنسانية، وكأنّ لسان حاله الحاقد يقول: "هؤلاء البشر لا يجب التعامل معهم إلّا بهذه الطريقة وحدها". لم يفاجأ القاضي حين أُخبر أنّ الشمال أكثر حاجة لأطبّاء، حيث يتعرّض لمجازر يومية، ولا يوجد هناك سوى طبيبَين. أعلن موافقته الفورية، وبعد رحلة محفوفة بالمخاطر والأفخاخ وجد نفسه في مستشفى شهداء الأقصى.
كانت العمليات الجراحية لا تتوقّف، ولا نوم من الليل حتّى ظهيرة اليوم التالي: "لا توجد غرف عمليات مُجهّزة، حتّى الغرف التي كانت مُخصّصة للولادة أجرينا فيها عمليات، بل تم استحداث، على عجل، غرفة بسيطة مُلحقة، وكانت الكهرباء عُرضةً للانقطاع في أيّ وقت".
في غرفة طوارئ، بعد أن وُزّعت الغرف على زملائه الأطبّاء من أماكن شتّى، وكانت غالبيّتهم من الأردن، تعرّف على الطفلة دلال الكرد، المُصابة بشظايا باطنية وصلت حتّى كبدها. ولكن، لحسن حظّها، وبعد عمليات مُعقّدة أُنقِذت، فأهدت الطاقم الطبّي وشاحاً موقّعاً "من الطفلة الجريحة دلال الكرد". هذا الوشاح هو الذي ظهر به الطبيب هاني القاضي في أثناء اللقاء المذكور، ووصلت إليه من الطفلة دلال رسالةُ شكرٍ لأنّها تابعت اللقاء، قرأها الطبيب القاضي للمشاهدين.
مشاهد من القتل المجّاني يصعب وصفها، ارتكبه الصهاينة وصادفها القاضي، ما يُؤكّد أنّ ما تعكسه الأخبار وتصوّره ليس إلّا جزءا من كلّ. في إحدى المرّات، كانوا في سيارة تابعة لهيئة الأمم المتّحدة، وكان المكان قرب البحر، حينها قنص الصهاينة اثنَين من الصيّادين، ليكتشفوا في ما بعد أنّ سبب القنص هو أنّ الصيادَين اطمئنّا لوجود سيارة تابعة للأمم المتّحدة فأرادا العبور، ولكنّ الصهاينة قنصوهما، رغم أنّهما مَدنيان أعزلان. لم يستطع الطاقم الطبّي مساعدتهما سوى بتوفير أغطية قدّموها لأهاليهما ليغطّوا جثّتيهما. وفي إحدى اللحظات النادرة، يسرد القاضي أنّ أحد أفراد الطواقم الطبّية لم يعرف بداية أنّه عُماني، وحين عرف جنسيته جاءَ فوراً لاحتضانه "لقد نسيَنا الجميع، وشكراً لأنك أتيت من أجلنا"، قال له الزميل.
ممّا يجدر ذكره أنّ هاني القاضي زميل دراسة في مدرسة روي الثانوية في مسقط، وهو من بيت أدب وثقافة، وكان طالباً مُتفوِّقاً على مستوى عُمان، درس الطب في جامعة السلطان قابوس، ولديه زمالة في عدّة مستشفيات عالمية، ويعمل حالياً مستشاراً طبّياً ورئيساً لقسم الجراحة في مستشفى جامعة السلطان قابوس، كما اختير ممتحناً في عدة جامعات دولية. في طفولته (فترة الثمانينيّات) زاول التمثيل، ويمكن مشاهدة لقطات جانبية له في دور طفل. محطّات عديدة مرّت في حياة الدكتور هاني القاضي، توّجها أخيراً، وليس آخراً، بهذا الموقف الإنساني الكبير، الذي يرتقي إلى مستوى البطولة.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي