أحوال سورية في قصص زياد عبد الله

09 يناير 2023
+ الخط -

كانت بشارتي في العام الجديد في القراءة أن أبدأ مع مجموعة قصصية بعنوان "سورية يا حبيبتي" للكاتب السوري زياد عبد الله، الذي سبق أن تعرّفت على أسلوبه وعوالمه من روايته الملفتة "برّ دبي" (دار المدى، بغداد بيروت، طبعة أولى، 2008)، والتي يسرد من خلالها آلام وأحلام الهامش البشري الذي يعيش في ظلال المدينة التجارية المعروفة. تميّزت الرواية بفنيّاتها وتعدّد شخصياتها وتكاثرها في أقل من مئتي صفحة. أتذكّر حين قرأتها شاركتها أخي أحمد المقيم في موسكو، فقال لي إنها تذكّره بروايات أميركا اللاتينية، لأجوائها السحرية ولغتها الشاعرية.
يقف قارئ قصص "سورية يا حبيبتي" أمام 16 قصة متوسطة الطول، موضوعاتها عن سورية الحاضر، وقد كتبها زياد عبر مسافة الحنين، حيث يقيم خارج بلده منذ عام 2000، يكتب في السينما، ويشارك في تقييم الأفلام عبر مهرجانات سينمائية وتلفزيونية، من ضمنها المساهمة في كتابة النسخة الجديدة من مسلسل الأطفال "افتح يا سمسم". كما أنه على اطّلاع وغوص في التراث العربي، فله أيضاً كتابه "الضحك في الإسلام" المتميّز بالنبش في متون عربية قديمة لاستخراج المواضيع المضحكة منها. وهاتان الميزتان، اللقطة السينمائية والتراث العربي، تبرزان في قصص المجموعة، حيث يمكن أن يلاحظ القارئ بسهولة تشرّبه بهذا التراث عن طريق اللغة والاقتباسات المتقطعة من عيون التراث. وكذلك التماهي السينمائي عن طريق الوصف البرّاني المتحرّك لمسار الشخصيات التي عوّضها، نفسياً، بالقدرة على تقمّصها وتمثّل نفسياتها. عنصر السخرية واللامبالاة كذلك بادٍ في حوارات قصص هذه المجموعة التي يمكن أن تقرأ بسلاسة وإمتاع، رغم مأساوية مواضيعها وتراجيديتها التي تعكس، بالتالي، المأساة والتغريبة السورية، وعمق الألم الذي من الصعب مجابهته بسلاح واحد. وقد جاءت السخرية هنا غير مفتعلة، إنما منبثقة من صلب هذا الألم وواصفة له. مثلاً، يتقمص السارد في قصة "الطريق إلى حلب" دور امرأة مسنّة، ترى نفسها فجأة في بلد غريب، ولكن رائحة غامضة تذكّرها بمدينتها حلب، ثم يهفو صوت صباح فخري، فتظلّ تتبع الرائحة/ الذكرى، فتخرج متسرنمةً إلى الشارع، إلى أن يتعرّف عليها أحد المارّة السوريين، فيتصل بأهلها ليأتوا لأخذها.
وإن كان بعض من قصص المجموعة يرصد الغربة والتشرّد في حياة السوريين، فإن جزءاً مهمّاً كذلك يرصد سورية من الداخل، مثل قصة "القرف" التي تتبع هواجس "سعد" المسكون بتكرار زيارة محمية السلاحف خوفاً عليها من الانقراض، لأنه تعوّد أن يرمي في فتحات المجارير ما يشبه "قناديل البحر". وفي قصة "البطل" نراه يتقمّص دور ملاكم سوري يعيش في أميركا، يأمل في المباراة النهائية التي سيخوضها ضد ملاكم أميركي أن يفوز، ويكرّمه الرئيس حافظ الأسد بإطلاق سراح أخويْه المعتقلين، ثم ينهزم، ولكن النصر سيتحقّق في حلمه وهذيانه فقط، وهو في طريقة إلى الإسعاف، حين يرى حافظ الأسد يكرّمه، ويدعو أخويه إلى استقباله في القصر الرئاسي، حيث أفرج عنهما. وقد استخدم القاص في هذه القصة قدراتٍ سينمائية، ليضمن تأثيرها على القارئ من دون الحاجة إلى استخدام أيٍّ من صيغ الإخبار المباشرة. وفي قصة "الضوء"، يتقمّص السارد حالة جندي يعيش في حفرة، وهو يتلو الأذكار الدينية التي تنبثق من شفتيه تلقائياً، بسبب الوحشة وترقب الموت في أي لحظة. يكشف الكاتب هنا عن قدرات في انتقاء عباراته من المكتوب الديني من آياتٍ قرآنيةٍ وأحاديث وأدعية. من دون أن يفصح بصورة حاسمة عن طبيعة هذا الجندي وتوجّهه، وذلك لأن الخطاب هنا إنساني بقدر ما هو هوياتي محدّد ضد أو مع جهة معينة في الحرب، التي لا تجمع سوى الضحايا ومن مختلف الأطراف المتحاربة.
كل قصّة في هذه المجموعة بمثابة عالم مستقلّ، يمكن فصله عن أجواء المجموعة، ولكن الخيمة التي تتحرّك الأحداث تحتها تظلّ واحدة، وهي سورية المستعادة عبر مسافة الحنين، بمدنها وبشرها وأغانيها، حيث من المهم الإشارة أيضاً إلى أن العنوان "سورية يا حبيبتي" قد استمدّه الكاتب من كلمات أغنية سورية. وسيرى القارئ كذلك سحابةً من الأغاني تتخلّل القصص، من أبرزها أغاني صباح فخري التي لا غنى للسوري عنها في مقامه ومنفاه.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي