"الأوكرنة" في معجم الحروب

12 مارس 2022
+ الخط -

تعدّدت المصطلحات المنبثقة من لبّ النزاعات حول العالم، خصوصاً التي نشبت في الربع الأخير من القرن الماضي. ولم يكن غريباً إدراج مصطلح "اللبننة" في معجم لاروس الفرنسي، لتلخيص الصراعات في لبنان بين مجموعات في وطن واحد، تؤدّي إلى تفكك أركان الدولة. أما "الصوملة" فباتت مرادفةً للصراعات التي لا تنتهي في الصومال، بينما درجَ مصطلح "العرقنة" للإشارة إلى التراكمات المكثفة للنزاعات في العراق وتفرّعها. وفي البلقان، نشأ مصطلح "البلقنة" للدلالة على تفكّك دولة محورية إلى سبع دول، في ترجمة لتاريخ النزاعات الإثنية والدينية في مداخل أوروبا الجنوبية الغربية.

في أوكرانيا، لم ينبت المصطلح الرسمي بعد، المفترض أن يكون مغايراً لكل ما سبق. قد تكون "الأوكرنة" مزيجاً من مقاومة مدعومة من الغرب اقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً. في المقاومة، يُقاتل الأوكرانيون قتال داود في مواجهة غوليات، يقودهم "قائد شجاع. ليبرالي وحرّ في العاصمة كييف"، رفض الفرار، مثل ما هرب قبله الرئيس الأفغاني، أشرف غني، في أغسطس/ آب الماضي من كابول. قد يُقال الكثير عن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ومنها أنه "عديم الخبرة، ومسرحيّ، وكوميدي، ويهودي، ونازيّ، وكان من الواجب عليه الخضوع لروسيا بدلاً من مواجهتها، وأنه دمية بيد الغرب"، وغيرها. في الواقع، كل ما كُتب ليس تهمة، باستثناء "النازية"، فزيلينسكي يمثّل كل عناصر الإنسان الذي يريد الحفاظ على حرية بلاده ومجتمعه بمقاومةٍ ستبقى في الذاكرة فترة طويلة، أمام جيش يريد "تصحيح التاريخ"، بحسب رئيسه فلاديمير بوتين. التاريخ وجهة نظر ويُكتب بأقلام المنتصرين، لا حقيقة ملزمة.

أظهرت "الأوكرنة" لنا نقاط ضعف الجيش الروسي بعد أكثر من أسبوعين على الغزو. اقتصادياً، لم يجر دعم أي بلد، سواء بمدّه بالأموال أو عبر فرض العقوبات على عدوّه، كما دُعمت أوكرانيا، خصوصاً في سياق فرض العقوبات على روسيا بشكل هائل، إلى درجة أنه لم يعد أمام موسكو مجالات واسعة للتحرّك، فإما أن تتحوّل إلى دولة فاشلة سريعاً، أو توسّع ساحات المعارك، أو الانسحاب الفوري من أوكرانيا. وكل كلام آخر عن "قدرة روسيّة على الاستمرارية الاقتصادية" ذرّ للرماد في العيون. والعقوبات الغربية، مع أنها نوع من تضامن دولي مجتمعي، إلا أنها مصلحيّة في زوايا عديدة لسببين. الأول أن الناس في الدول الداعمة لأوكرانيا قادرة، وبموجب الديمقراطية المعمول بها في أنظمتها، على محاسبة كل من يقصّر بمساندة أكبر دولة أوروبية أمام ثاني أكبر جيش في العالم. والثاني أن انتصار الروس في أوكرانيا يعني مزيدا من الضغط على العالم الغربي، وأوروبا تحديداً، وهو ما لا قدرة للمسؤولين الغربيين على تحمّله. الدعم ليس مجّانياً، فالغرب رأسمالي فاقع.

في "الأوكرنة" أيضاً، زخمٌ إعلامي واسع، لم تشهد مثله أي حرب في التاريخ، خصوصاً لجهة الاهتمام بالمواطنين الأوكرانيين ولجوئهم إلى دول الجوار، وملاحقة كل تفاصيل المعارك والقصف. في هذا الزخم، شَطَح إعلاميون غربيون بمصطلحاتٍ عنصريةٍ عن لاجئين شقر وبيض وأوروبيين "يشبهوننا"، في مأساة فكرية تُظهر فراغاً في التفكير المنطقي لكثيرٍ منهم، واعتمادهم فقط على صناعة الصورة من دون إدراك ما خلفها أو التمتع بثقافة مجتمعية. "الأوكرنة" ستُكرّس كـ"فطرة" مزروعة في مفهوم المقاومة، كما سبقتها مقاومة "الفييتكونغ" في فيتنام. لكن أيضاً سيُسجّل أن الأخبار والصور الزائفة انتشرت بقوة أكبر بكثير من السنوات الماضية. وفي المقابل، ارتفع مفهوم التدقيق في الأخبار المنتشرة، في مؤشّر إيجابي على عدم انسياق بعضهم سريعاً خلف أي قصة من دون التأكد منها.

قد تسقط كييف أو لا، لكن سقوطها لا يعني انتهاء القتال. كابول 1979 وكابول مجدّداً في 2001 وبغداد 2003 سقطت في البدايات، ثم استمر القتال سنوات طويلة قبل انسحاب الغزاة. لن تختلف أوكرانيا.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".