تتزايد معدلات الإصابة بمرض الفشل الكلوي في قطاع غزة، بشكل يفوق الحد الطبيعي، إذ تعرض القطاع المحاصر لقصف هائل عبر آلة الحرب الإسرائيلية على مدار أعوام متقاربة، ما أدى إلى تسميم البيئة وتلويثها بالمعادن الثقيلة.
- يتزايد قلق الطبيب الفلسطيني عبد الله القيشاوي رئيس قسم أمراض الكلى بمجمع الشفاء الحكومي، (أكبر المؤسسات الصحية في القطاع المحاصر)، بعدما رصد تزايدا كبيرا في أعداد مرضى الفشل الكلوي، منذ العدوان الإسرائيلي عام 2014، إذ تتراوح نسبة الإصابات الجديدة سنويا ما بين 13% و14% أي ما بين، 140 مريضا و150 حالة جديدة كل عام، ما يعد رقما كبيرا قياساً بما كان الحال عليه سابقاً، وهو يطابق ما وثقه رواد بدوي الباحث في جمعية "أصدقاء مرضى الكلى" والتي تتابع وضع المرضى في غزة، قائلا :"توجد ثلاث مشكلات حديثة تتعلق بالمرض، الأولى زيادة معدلات الإصابة، والثانية كونها وصلت إلى فئات عمرية صغيرة، إضافة إلى سرعة فتكه بالجسد متسببا في العديد من الأعراض الخطيرة التي تؤدي إلى الوفاة في وقت قصير".
ويبلغ عدد مرضى الفشل الكلوي المسجلين في مشافي القطاع 1000 حالة تلجأ إلى الغسل الكلوي بينهم 570 مريضاً يتلقون 3 جلسات غسيل أسبوعياً في مستشفى الشفاء وحده، بالإضافة إلى 800 يقتربون من مرحلة الغسل، وكذلك 850 مريضا لديهم أعراض أقل حدة بحسب بيانات وزارة الصحة والباحث بدوي.
وزار معد التحقيق أقسام غسل الكلى في مستشفيات القطاع، وأجرى استطلاعا ميدانيا شمل 40 مريضاً، اتضح أن 70% منهم يقطنون مناطق بيت حانون وجباليا وبيت لاهيا شمال القطاع، اضافة لشرق مدينتي غزة وخان يونس ورفح (مناطق حدودية تعرضت للقصف بكثافة)، و80% من هؤلاء تقع منازلهم قرب مناطق شهدت سقوط قنابل، منهم الخمسينية سهام شراب، والخمسيني سليمان كوارع، ويقطنان في نفس الشارع جنوب مدينة خان يونس، وأصيبا بالمرض بعد عام واحد من عدوان 2014، إذ شهدت منطقتهم قصفا مكثفا.
وتقول هبة شراب ابنة سهام ومرافقتها في جلسات الغسيل، معظم من يتواجدون في أقسام الغسل جاؤوا من مناطق تعرضت للقصف، وهو ما يتفق معه زوج الغزية سعدية حسن، والتي عانت قصورا تدريجيا في وظائف الكلى بعد 8 شهور فقط من تعرض منزلهم شرق مدينة رفح لقصف مدفعي عام 2014، حتى تفاقمت حالتها، وخضعت لجلسات غسيل، ثم أصيبت بجلطة دماغية أفقدتها النطق والحركة.
علاقة المرض بالحروب
شنت دولة الاحتلال أربع حروب على القطاع المحاصر، منذ عام 2008 وحتى العام الجاري، إضافة إلى عشرات الجولات التصعيدية، أطلق خلالها الجيش الإسرائيلي 85 ألف طن من المتفجرات ضربت مساحة غزة والتي لا تزيد عن 365 كيلومترا مربعا، وفق بيانات شرطة هندسة المتفجرات، ويعتقد الدكتور أحمد حلس رئيس المعهد الفلسطيني للبيئة والتنمية، وخبير المياه المهندس سعيد العكلوك، المدير الحالي لبرنامج إدارة النفايات الصلبة والمياه العادمة في غزة، بأن جزئيات معادن ثقيلة بالغة الصغر ناتجة عن الكمية الهائلة من المتفجرات، تسللت إلى الخزان الجوفي عبر المطر أو الري، وبالتالي تصل للمزروعات، وتدخل في الدورة الغذائية، لتصل للجسم، وتتحد مع الخلايا، وعند قيام الكليتين بغسل الدم تعلق في خلاياهما، ومع مرور الوقت تسبب تلفهما وبالتالي يعاني المريض من الفشل الكلوي، خاصة أن المعادن السامة غير قابلة للتفتت والتحلل "الهدم البيولوجي"، وتبقى في التربة لعقود طويلة، وحتى قد تصل إلى الجسم عبر استنشاق غبار القذائف كما يقول حلس، وهو ما تؤكده دراسة أجراها الباحثون علاء مسلم من الكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا، ومحمد المغير من جامعة فلسطين، ومحمد الآغا من الجامعة الإسلامية، ونشرتها "المجلة العربية للعلوم ونشر الأبحاث" في مارس/آذار 2019، بعنوان "أثر الكوارث الطبيعية على المياه والتربة في شمال قطاع غزة، حالة دراسية، قرية أم النصر-القرية البدوية".
85 ألف طن من المتفجرات ضربت مساحة غزة الصغيرة
وكشف الباحثون أن نتائج فحص 14 عينة تربة تعرضت للقصف شمال القطاع ملوثة بالمعادن الثقيلة عنصر Pb الرصاص، Co الكوبالت، وMn المنغنيز، وعنصر Cu ويعني النحاس، Cr عنصر الكروم، إضافة لعنصر Ni النيكل. وأظهرت الدراسة أن تركيز النحاس أعلى 30 مرة عن الحد الطبيعي، والمنغنيز أعلى بـ 144 مرة عن المسموح به في التربة، والكروم والكوبالت أعلى بخمس مرات من الطبيعي، وسجل عنصر الرصاص ارتفاعا يزيد بمقدار 12 مرة عن حده الطبيعي، ويؤكد حلس على أن دراسة لم تكتمل يجريها المعهد بعنوان" أثر الغارات والقصف الإسرائيلي على التربة والمياه بغزة"، كشفت نتائجها الأولية عن وجود كميات هائلة من المعادن الثقيلة في التربة والمياه، وصل تركيزها في محيط الحفر الناجمة عن الصواريخ والقنابل إلى 60% فوق المعدل الطبيعي.
ويعتبر النحاس والرصاص من العناصر الأخطر المسببة لمرض الفشل الكلوي، وفق حلس والقيشاوي وبدوي، إضافة لعناصر الكلورايد والأمونيا، التي وجدت بصورة كبيرة في مياه الشرب بعد فحص 14 بئر مياه، وفق الدراسة التي توافقت نتائجها مع آخر تقرير إحصائي صدر عن وزارة الصحة بغزة عام 2020، والذي كشف بأن أعلى مناطق الإصابة بأمراض الفشل الكلوي هي شمال القطاع "جباليا وبيت حانون، القرية البدوية، وبيت لاهيا"، بنسبة 55% من إجمالي المصابين، والتي تعد أكثر مناطق القطاع تعرضاً للقصف في الحروب السابقة.
مكونات خطرة
يستخدم الاحتلال قنابل "MK84"، والقنابل الموجهة جي بي يو-31″ (GBU-31) و"جي بي يو-39" (GBU-39) المجنحة شديدة الانفجار والتدمير، والتي تحوي مادة "تروتونال - Tritonal" وهي عبارة عن خليط من 80٪ TNT شديدة الانفجار و20٪ ألمنيوم مسحوق، وعند اتحادهما لحظة الانفجار تنشأ مادة غازية، تنتج أكثر من 40 عنصرا من المعادن الثقيلة، تنتشر على مساحات واسعة من الأرض، وفق إفادة النقيب محمد مقداد، رئيس قسم التوعية والإرشاد في الهيئة العامة لهندسة المتفجرات بشرطة غزة، وهو ما أكدته دراسة حلس بأن المسبب الأول لنشر المعادن الثقيلة قنابل الاحتلال، تليها مياه الصرف الصحي، والنفايات الصلبة.
تركيز عال من المعادن الثقيلة في بيئة غزة بنسبة تفوق المعدل الطبيعي
بالإضافة إلى ما سبق يرى اللواء المتقاعد واصف عريقات أن من المستحيل من الناحية العسكرية لأي قنبلة أو صاروخ اختراق الأرض لمسافة 20 أو 30 مترا ومن ثم الانفجار دون دخول مادة "اليورانيوم المنضب" المشعة في تركيبتها، إضافة للمواد التقليدية، قائلا :"إسرائيل تستخدم قنابل تخترق الأرض، من نوع "GPU"، ويعلق حلس بأن انفجار القنابل على عمق كبير يجعلها قريبة من المياه الجوفية، ويفرغ كامل محتوياتها في التربة، ما يعني أن العناصر الثقيلة تصل بسهولة للخزان الجوفي، وتختلط بمياهه.
حرمان القطاع من أدوات الفحص
بعد ظهور نتائج فحوصات أجرتها وزارة الصحة ومؤسسات أكاديمية وبحثية عقب عدواني 2008 و2012 توصلت إلى وجود تركيز عال من المعادن الثقيلة في التربة والمياه بنسبة تتراوح بين 30% و50% زيادة عن الحد الطبيعي، منعت دولة الاحتلال وصول مواد الفحص اللازمة للكشف عن تلك العناصر، وفي حال وصولها تكون الكمية ضئيلة وتكلفتها عالية جداً، بحسب العكلوك وحلس، غير أن سبعة مرضى كلى سافروا للعلاج في مصر، وثق معد التحقيق أن نتائج تحاليلهم كشفت عن وجود نسب عالية من المعادن الثقيلة في أجسادهم، ومن بينهم الشاب أحمد سلامة الذي نجح في زراعة كلية عبر تبرع من أحد أقربائه، بينما لم يحالف الحظ العشريني محمد نصر، من سكان جنوب قطاع غزة، والذي توفي بعد مضاعفات المرض وفق أقربائه.
وأجرت جهات حكومية وأهلية عشر محاولات (ما بين أعوام 2009 و2015) لإرسال عينات تربة من مناطق تعرضت للقصف من أجل تحليل جزئياتها في الخارج والكشف عن محتوياتها، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل سواء عبر معبر بيت حانون أو مصر، وفق المهندس أدهم البسيوني مدير الإدارة العامة للوقاية والحجر الزراعي بوزارة الزراعة في غزة والذي أضاف بأن الوفود الدولية التي حاولت إخراج العينات، تم توقيفها ومصادرة ما تحمله ومُنعت من دخول غزة مرة ثانية، والمحاولة الوحيدة التي نجحت كانت عبر باحثين من جامعة جنوة الإيطالية، نتج عنها دراسة منشورة في المجلة العلمية "International Journal of Environment Research and Public Health"، في عام 2010، وأثبتت وصول العناصر الثقيلة للمواليد الجدد والأجنة بعد تعرض أمهاتهم للإجهاض.
كارثة في شمال غزة
قصف الاحتلال مخازن تحوي مواد كيميائية تدخل في صناعة مبيدات وأسمدة زراعية خلال عدوان مايو/أيار الماضي، ما تسبب في حريق كبير، وفق المهندس البسيوني والدكتور حلس، اللذين أكدا أن المخزن كان يحوي 400 طن عبارة عن 20 مادة شديدة السمية، وفي حال اتحدت مادتان أو أكثر تنتج سموما أعلى وأخطر.
وأجرت وزارة الزراعة مسحا ميدانيا للمنطقة المحيطة بالمخزن، بمشاركة خبراء، كشفت نتائجه أن 90% من المواد المخزنة احترقت، وتحولت إلى غاز وفق البسيوني، لكن حلس توقع أن تكون جزئياتها انتقلت بفعل الريح وسقطت في مناطق أخرى، بينما بقيت 10% دون احتراق متناثرة حول المخزن، وخطرها مستمر. ورغم إخلاء وزارة الزراعة للسكان القريبين من المستودع، لازالت روائح كريهة تملأ المنطقة التي يعاني 60 من القاطنين فيها من ضيق تنفس وتهيج جلدي، ومشاكل في العيون، وهو ما يعيده حلس إلى انتشار للسموم فوق الأرض وتحتها، وبالتالي تزايد متوقع في أمراض السرطان والكلى والكبد، بينما يقول الدكتور يوسف إبراهيم رئيس سلطة المياه والبيئة، إنه بالتعاون مع مؤسسات دولية، ستبدأ عملية إزالة وترحيل تلك المخلفات الخطرة خلال المرحلة المقبلة.