تؤكّد الحملة التي بدأتها دوائر الاحتلال الإسرائيلي المختلفة في مناطق ما يعرف بـ"غلاف القدس"، والتي كانت إلى الآن لا تدخلها لتنفيذ عمليات هدم أو تحرير مخالفات وغيره، توسّع الاحتلال في سياسة استهداف المقدسيين، وحتى مواطني الضفة الغربية المتواجدين في هذه المناطق. السلطات الإسرائيلية تعتبر تلك المناطق تحت سيطرة دوائرها المختلفة، سواء بلدية الاحتلال في القدس أو شرطتها، وكذلك دوائرها الضريبية المختلفة، ما يشير إلى التمهيد الإسرائيلي لاستهداف المنطقة بواقع استيطاني جديد. وفي هذا الإطار، يقول القيادي في حركة "فتح"، حاتم عبد القادر، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "ما قامت به سلطات الاحتلال نهاية الأسبوع الماضي، من اجتياح لمحيط مخيم قلنديا وحيّ المطار شمال القدس، ومصادرة كميات كبيرة من البضائع تقدر بملايين الشواقل، إضافة إلى تسليم إخطارات هدم لبعض السكان، وملاحقة سائقي المركبات، يعدّ تطوراً خطيراً في استهداف الاحتلال للمقدسيين خارج الحدود البلدية المصطنعة لمدينتهم، وخارج نطاق سيطرتها، كما حدث في مخيمي شعفاط شمال شرق القدس وقلنديا. فالمخيمان يتبعان لإشراف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فيما يقع مخيم شعفاط إدارياً وأمنياً تحت سيطرة الاحتلال وقبضته الحديدية".
ويرى عبد القادر أنّ ذلك يعني أنّ المقدسيين حتى خارج حدود بلدية الاحتلال في القدس، وفي مناطق مصنفة جغرافياً كمناطق ضفة غربية، "لن يكونوا بمنأى عن حملات الدهم والهدم واجتياح أماكن سكنهم بالقوة العسكرية الغاشمة"، مضيفاً أن "هذا ما رأيناه في مخيم قلنديا قبل أيام، ما يعني أنّ أعباء جديدة ستفرض على السلطة الفلسطينية، والتي سيكون من واجبها دعم المقدسيين في هذه المناطق، والذين حسبوا أنهم بمنأى عن سياسات الاحتلال هذه".
بدوره، يقول مدير "مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية"، زياد الحموري، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ تركيز عمل دوائر الاحتلال على المنطقة الواقعة في محيط حاجز قلنديا وحي المطار "مرتبط على ما يبدو بترتيبات خاصة تتصل بمشاريع الاحتلال الاستيطانية في محيط الحاجز، والمنطقة الصناعية هناك، والمسماة عطروت، وحتى في مستوطنة بسغوت، المقامة على أراضي مدينة البيرة المتاخمة والقريبة من مخيم قلنديا وحي كفر عقب (شمال القدس)". ويوضح الحموري أنّ الحملة الأخيرة لسلطات الاحتلال، والتي اشتركت فيها أكثر من دائرة تنفيذية، هي ليست الأولى من نوعها، بل إنّ حملات سابقة كانت تمت فعلاً، تخللها تسليم إخطارات هدم لمبانٍ تقع بجوار مطار قلنديا وحي المطار، ومداهمات ضريبية من قبل بلدية الاحتلال، بما فيها ضريبة الدخل على محال تجارية تقع بجوار حاجز قلنديا. كما نفّذت بلدية الاحتلال في القدس، مزيداً من عمليات الهدم لمنشآت ومحال على تخوم الحاجز، في وقت تجري فيه أعمال إنشاءات كثيرة داخل منطقة الحاجز وخارجها قرب المنطقة الصناعية (عطروت)". وهو ما يعتبره الحموري "تمهيدا لتغيير طابع المنطقة برمتها لترتبط بتجمعات استيطانية مقامة وأخرى ستقام". ويتابع: "ربما نشهد بناء جسور وأنفاق تخدم الترتيبات غير الواضحة التي يسعى الاحتلال لفرضها واقعاً على الأرض على حساب الفلسطينيين، بما في ذلك بناء مئات الوحدات الاستيطانية الجديدة في منطقة عطروت، وعلى أراضي قرية قلنديا شمال القدس، التي شهدت العام الماضي وهذا العام هدم عشرات المباني من قبل الإدارة المدنية لجيش الاحتلال، بالتنسيق مع مختلف دوائره، خصوصاً بلديته في القدس، التي يهيمن عليها ائتلاف يميني متطرّف".
بناءً على ذلك، يعتقد الحموري أنّ الاستهداف في هذه المرحلة يؤشّر لمرحلة أخرى جديدة من مخططات الاحتلال التي تهدف إلى تضييق الخناق على جميع التجمعات الفلسطينية شمالي القدس المحتلة، بما في ذلك أحياء تقع خارج منطقة حاجز قلنديا، مثل حيي كفر عقب وسميراميس شمال القدس. والحيّان طرحت في السابق مشاريع لسلخهما عن القدس المحتلة، والتخلّص من عشرات آلاف المقدسيين فيهما، خصوصاً بعد عزلهما بجدار الفصل العنصري، في مقابل ربط جميع التجمعات الاستيطانية في تلك المنطقة ببعضها البعض، سواء كانت مستوطنات أو مناطق صناعية ومعسكرات لجيش الاحتلال.
وقد يكون الاحتلال وضع ترتيبات خاصة لمنطقة الحاجز العسكري القديم عند دوار حي ضاحية البريد المتاخم لبلدة الرام شمال القدس، حيث إنّ التقسيم الجغرافي إداريا للشطر الأيمن من الضاحية على طريق القدس-رام الله، يتبع لإدارة جيش الاحتلال، ومصنّف كمنطقة ضفة غربية، بينما يتبع الشطر الثاني لإدارة بلدية الاحتلال في القدس. ويصف الحموري معاناة المقدسيين الاقتصادية في المناطق التي استهدفت أخيراً بمحيط قلنديا، بأنها "مزدوجة"، أي من قبل الاحتلال، ومن قبل السلطة الفلسطينية أيضاً، إذ أطلقت الأخيرة منذ فترة حملة لمحاربة الشرائح الإلكترونية الإسرائيلية لأجهزة الاتصال الخلوية، ما جعل هذه المناطق هدفاً لهذه الحملة، علماً بأنّ الغالبية العظمى من المقدسيين في هذه المناطق، يحوزون تلك الشرائح الإسرائيلية لاعتبارات جودة الاتصالات في مناطقهم.
يذكر أنّ بلدية الاحتلال في القدس، وفي إطار خطة كان طرحها رئيسها السابق نير بركات لإلغاء عمل مؤسسات وكالة "أونروا" ودورها، نفّذت مطلع هذا الشهر العديد من عمليات الهدم في مخيم شعفاط الخاضع لإشراف الوكالة، فيما بدا أنه رسالة سياسية لسكان المخيم من اللاجئين، ولـ"أونروا"، بأنّ دولة الاحتلال هي صاحبة السيادة على المخيم، خصوصاً بعد افتتاحها مركزاً جماهيرياً هناك، ومركزاً آخر لشرطة الاحتلال على المدخل الغربي للمخيم، يتولى معالجة قضايا السكان.
ويقول ثائر الفسفوس من سكان المخيم، لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يكاد يمرّ يوم من دون أن تقتحم قوات الاحتلال المخيم لتهدم أو تسلّم أوامر هدم، فضلاً عن مصادرتها بضائع وممتلكات، وفرضها مخالفات سير على المواطنين"، لافتاً إلى أن "هذه الإجراءات لم تكن تحدث في السابق، إذ كان الاحتلال يقتحم المخيم فقط حين يتعلّق الأمر باعتقال شبان مطلوبين له. أما اليوم، فهو يمارس كل أشكال التنكيل بالمواطنين وملاحقتهم". وكانت شرطة الاحتلال، وفي أعقاب حملتها الواسعة أخيراً في مخيم قلنديا وحي كفر عقب المجاور له، أصدرت بياناً لخصت فيه نتائج هذه الحملة، مشيرةً إلى أنه "أول نشاط من نوعه ويأتي لزيادة إنفاذ الحكم في كفر عقب، حيث صادرت شرطة الحدود وبلدية الاحتلال في القدس، وسلطة ضريبة الدخل وكتيبة (بنيامين) في الجيش، بضائع ونقوداً قيمتها حوالي 5 ملايين شيقل (1.39 مليون دولار)، وحررت 40 مخالفة لوقوف السيارات بقيمة 10 آلاف شيقل، وسلّمت 8 إشعارات لمخالفات البناء".
وأضاف البيان أنّ "هذه الأنشطة تقودها الشرطة الإسرائيلية وغيرها من (وكالات إنفاذ القانون)، والتي تنفذ بشكل روتيني في قرى (منطقة الغلاف) بالقدس"، مضيفاً أنّ "الدخول إلى كفر عقب، هو خطوة أخرى مهمة في سياسة الإنفاذ التي تعزز الأمن وتزيد من الحكم".
يشار إلى أنّ حي كفر عقب المقدسيّ، تقطنه أغلبية كبيرة من المقدسيين من حملة البطاقة الزرقاء، الذين كانوا استقروا في هذا الحي خلال السنوات العشرين الماضية بسبب غلو سياسة الاحتلال بحقهم، سواء فيما يتعلق بحقهم في السكن والإقامة، أو بتثبيت حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية. ويقدر عدد سكان هذا الحي بأكثر من 60 ألف نسمة، إضافة إلى نحو عشرة آلاف مقدسي يقطنون حي المطار المتاخم لمخيم قلنديا.
وكان هذا الحي شهد حركة بناء ضخمة، بعد تدفق أعداد كبيرة من المقدسيين للسكن فيه، بالنظر إلى أسعار الشقق الرخيصة هناك، وانخفاض أسعار الشقق المستأجرة، مقارنة بمثيلاتها داخل القدس المحتلة، والتي تصل في معدلها العام إلى ألف دولار شهرياً. ولا يقتصر الأمر بالنسبة لهؤلاء على البحث عن مأوى وسكن فقط، بل أيضاً بحثاً عن أعمال توفّر لهم مداخيل جيدة، وهو ما دفع بكثير من التجار المقدسيين إلى الانتقال بأعمالهم ومشاغلهم للسكن في هذه المناطق، هرباً من ملاحقة ضريبة الدخل لهم. علماً أنّ ملاحقات هذه الضريبة لأشغالهم في القدس أفضت إلى تراكم مبالغ مالية طائلة عليهم، وفرض عقوبات شتى بحقهم تراوحت ما بين الحجز على حساباتهم، أو منعهم من السفر، وفي كثير من الأحيان تعرّضهم للاعتقال، وفق ما يوضح أمين سر غرفة تجارة القدس سابقاَ، حجازي الرشق، في حديث مع "العربي الجديد".
ويشير الرشق إلى أنّ نحو 400 متجر في البلدة القديمة من القدس، أغلقها أصحابها بسبب هذه الضرائب، وقد شهدت الأعوام الثلاثة الماضية ارتفاعاً في نسبة المحلات المغلقة بواقع 5 في المائة، عما كانت عليه من قبل.