خالد السلطاني؛ الهوية ليست نظرة للماضي بل للمستقبل

09 يونيو 2015
الدكتور المعماري خالد السلطاني
+ الخط -

من عمران عراق العشرينيات في القرن المنصرم، إلى موسكو للدراسة في الخمسينيات، ثم جامعات بغداد وعمان والخرطوم، وأخيرًا في كوبنهاغن، في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون. الدكتور المعماري، خالد السلطاني، ورحلة شغف بالعمارة العربية المنفتحة على الآخر، حيث الحداثة محور كل شيء. لكن، بعيدًا عن الأوهام، إذ إن الجهل السياسي والاجتماعي في مجتمعاتنا أثّر في عمارتنا.

*المتابع لكتاباتك ومحاضراتك يلاحظ لديك شغفًا بالعمارة في بغداد وفي العراق بصورة عامّة، في عقدي العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، فما سرّ هذا التعلّق؟

أعترف بأني مفتونٌ بعمارة العقد الثلاثيني في بغداد. أراه عقداً مميزاً واستثنائياً في أهميته العمرانية والمعمارية، إذ خلال هذا العقد تحديدًا، تمكّنت بغداد من أن تنتقل من مدينة في ولاية عثمانية منسية ومهملة، إلى عاصمة لدولة جديدة، بهرت المنطقة وما جاورها، ببيئتها المدينية الحداثية. كانت مرحلة تأسيس العراق مرحلة مضنية، وكان العراق بلدًا واعدًا في المنطقة. ففي ذلك الوقت لم يكن سوى العراق ومصر في طور التأسيس لدولة حديثة، أمّا باقي الدول فكانت لا تزال تعيش مراحل الاستعمار والمشاكل المرافقة له.
من حسن الحظّ، أنه كان لدينا الملك فيصل الأوّل في ذلك الوقت. وبشكل مجرّد، أعتبره شخصيةً تاريخيةً، مثقّفة ومحبّة للعمارة. وكان صديقه أيضًا معماريّاً، أراد أن يرفع من مستوى البلد إلى مستويات عليا. لكننا، ومع الأسف أقولها، كان مجتمعنا مجتمعًا متأخرًا. أنت تتعجب أمام مشهد أن الناس توافق على ما كان يطرح، وتسير معه في مشاريع محددة، ثم تنقلب رغم ذلك على مواقفها وتفكيرها. يجب أن نعترف بأن مراحل التأسيس، في بلادنا، عانت من جهل وتخلف منتشرين، والعملية كانت مضنية جدًا، فلم يدرك الناس ما معنى التقدّم في بناء الدول. لقد عشنا أوهامًا أثبت التاريخ أنها أوهام جميلة. فمن هو الذي لا يريد أن يرى بلده متقدّمًا؟
قمّة الأداء الجميل كانت في ثلاثينيات القرن الماضي، إذ إن مرحلة تأسيس العراق في العشرينيات كانت بدورها صعبة وشاقّة؛ فقد كانت الموصل في مكان آخر، ومشاكل عدّة تعصف في مرحلة التأسيس تلك. وبالرغم من ذلك، تمّ اجتياز صعوبات كثيرة خلال عشر سنوات. ثم جاء العقد الجميل في الثلاثينيات الذي كان زمنًا واعدًا، وكان من الممكن أن يقدّم دفعًا صوب الأمام، حيث العمارة مميزة، وترتقي إلى مستوى عالٍ جدًا إبّان مرحلة الـ "آرت نوفو" "Art Nouveau"، التي كانت منتشرة وقتذاك في فرنسا وألمانيا. كانت عمارة العراق حينذاك، تتوق لأن تكون بالمستوى ذاته. لكن، بسبب عدم وجود الكثير من المعماريين وقتها؛ كان الحرفيون أي "الأسطوات" يحضرون "كاتالوغات" من اليونان وفلسطين والشام وفرنسا وإيطاليا، ويقدّمون ما يرونه فيها، لكن مع بعض التحويرات اعتمادًا على خبرتهم، من أجل تصميم العمارة، وكذلك البيوت السكنية، وخصوصًا أن الأبنية العامّة كانت قليلة. أهتمّ بهذه البيوت وبطريقة عمارتها. وفي فترة لاحقة صرتُ أرسل طلابي للقيام بعملية مسح لهذه البيوت في مناطق معينة في بغداد؛ في الوزيرية والكرّادة. للأسف يجب أن نعترف بأن كثيرًا من العراقيين لا يعرفون تاريخهم السياسي والاجتماعي، وتاليًا فإنهم لا يعرفون تاريخهم المعماري. هدف اهتمامي بهذا الجانب إلى إعطاء تصوّر وفكرة عمّا كان قائمًا من حداثة وعمّا حدث بعد ذلك، هكذا نظرتُ إلى مهمتي.

*ألاحظُ لديك تأثّرًا بالمعماري الإنكليزي، جيمس ويلسون، وفي ما بعد بالعراقي، أحمد مختار.

دعني أجيب عن هذا السؤال منطلقًا من قراءة أثر الثقافة الإسلامية. أنا شخص متأثّر ومهتمّ جدًا بالقصور الأموية، فقد بنى الأمويون قصورًا جميلة جدًا في أريحا وفي بادية الشام. ولو أتتها داعش اليوم، فلن تهدمها فقط بل ستحرقها، حيث توجد في تلك القصور أعمال فنية تتضمّن مشاهد تصويرية للصيد ونساء شبه عاريات، وأحيانًا نساء عاريات بالكامل، وكذلك توجد صور لشخصيات حاكمة ملونة. هذه القصور، بمثابة صورة أخرى عن العمارة الإسلامية والفنّ الإسلامي. لقد شُيّدت في عصور أمراء المؤمنين، وهم مؤسّسو الثقافة الإسلامية. أظن أن لدينا نوعاً من الخلل في فهم الإجماع؛ فما أُجمع عليه لاحقًا، ليس ما أُجمع عليه سابقًا. وما أُجمع عليه في القرن التاسع الميلادي ليس ما أجمع عليه في قرننا الحالي. والخروج من سجال الإجماع يحلّ لنا الكثير من المشاكل. فالذين يدّعون اليوم بأنهم ينطلقون من إجماع ما، أعدّه أنا إجماعًا مشكوكًا في أمره، لأنه ليس إجماع السابق أصلًا، وهو لا يبرّر ادعاءات من يدعي هذا الإجماع اليوم.
وما أقصده هنا، في ما يخصّ الناحية المعمارية تحديدًا، واقع أنه لم تكن لدينا ثقافة تعتمد وجود معماريين، كما كان يوجد لدى الثقافات الأخرى. مثلًا حسان بن ماهوية الإنطاكي، هو أحد المعماريين في ذلك الزمن، ومثله حسان بن ثابت بن أبي ثابت، الذي ساهم في إنجاز عمارة قصر الحير الغربي والخان القريب منه، أثناء حكم هشام بن عبد الملك. والدليل هو العتبة التي وجدت على باب الخان، منقوشًا عليها ما يأتي: "أمر بصنعة هذا العمل عبد الله هشام أمير المؤمنين، أوجب الله أجره، عمل على يد ثابت بن ثابت في رجب 109 (727م)". أما المعمار الثالث فهو سليمان بن عبيد.
لكن لاحظ، بعد ذلك، كيف أن تغييب أسماء المعماريين العرب والمسلمين، جاء بناءً على ثقافة تذويب الأسماء في ظلّ ثقافة تذويب رؤية الذات من خلال الجماعة، لذا فنجد ؛ "العبد الفقير الحقير قام بهذا العمل لوجه الله". لا تُذكر الأسماء تواضعًا.
فالسؤال عن ويلسون يأتي جوابه،أن بعد عدّة قرون من غياب أسماء معمارية، ثم فجأة تجد نفسك أمام حدث؛ فمن الغريب حقًا أن يجيء معماري أجنبي ليقدّم تصميمات في البصرة وبغداد وغيرها من المدن العراقية. قدم ويلسون إلى العراق من الهند. وقدومه وعمله وتوقيعه على تلك التصميمات يعدّ خطوةً مفصلية في حداثة العراق آنذاك. لويلسون مبانٍ ذات حضور مميّز جدًا في المشهد المعماري الحداثي العراقي منها: جامعة آل البيت في الأعظمية، والبلاط الملكي في الكسرة، ومستشفى مود التذكاري في البصرة، ومطار المثنّى في الكرخ، ومطار البصرة، ومبنى الموانئ في البصرة كذلك، والمحطة العالمية للقطارات في بغداد، ومحطة قطار الموصل، ومبنى شركة نفط العراق في كركوك، وغيرها من الأبنية المهمّة.
بعدها جاء أحمد مختار كأوّل معماري عراقي، فبدا كأنه اختراق لثقافتنا وقيمنا، إذ لم يكن الصانعون والمعماريون معروفين. أحبّ عمل ويلسون لأنه أسّس ثقافة معمارية حديثة مع ليتشز، وعيّن "رئيس دائرة الأشغال العمومية" في ذلك الوقت، ومسؤولًا عن بناء المباني الجميلة في العراق، فصمّم قصر الملك ولو أنه لم ينفذ. وحين جاء مختار الذي كان يعرّف عن نفسه كجي آي، أي مسؤول المعمار الحكومي والمقصود الوزارات، راح يوقّع على الأبنية التي يصمّمها بحرفين : جي آي، الأمر الذي يعني أن بإمكانه أن يعمّر ويبني. لاحقًا ألغيت تلك الثقافة في معمار الحكومة، ودخلنا في الفوضى.

•حين توقّف ذلك العقد الجميل، مع كلّ ما حمله من تطوّر واعد، أين رأيت مهمّتك؟

وجدت مهمتي في إعطاء تصوّر واضح لما حدث. وقد كتبتُ عنه، باعتباره ماضي "الاجتهاد الآتي" لو جاز الاقتباس من عنوان ديوان أنسي الحاج "ماضي الأيام الآتية"، حيث الاجتهاد المعماري يُفترض أن يأتي. حتّى ذلك الماضي لدى أنسي الحاج له جماليته التي ستأتي في المستقبل. لكن العمران لم يتطوّر، لذا توقّف في الخمسينيات، ثم انقطع إبان الثورات وتلك الحركات الراديكالية وعدم الاهتمام بالثقافة، والاهتمام بالديماغوجية السياسية فقط. صحيح أن فنّ السياسة أمرٌ جميل، إلا أنه تمّ استخدامها كطريق للوصول إلى السلطة فحسب. لقد ساهم البعث في العداء بين أبناء الأمة العربية، ففي شقّيه؛ في سورية والعراق، دمّر البعث العلاقات بين الشعبين وأوقف التطوّر. الاشتراكية هي اشتراكية القتل، والحرية حدّث ولا حرج. في رأيي فإن البعثيين هم من يتحمّلون دمار العمران في العراق. وحتّى الآن عند الحديث عن داعش في العراق، أجدها تحمل في وجهيها المتناقضين على الجهتين، ثقافة البعث نفسه.
طال التخريب الكثير خلال ديماغوجية السياسة من أجل الحكم. فكثيرٌ من العراقيين لم يكونوا يعرفون لا تاريخهم السياسي ولا الاجتماعي، وبالتالي كانوا يجهلون تاريخهم العمراني. من هنا رأيت مهمتي في إعطاء تصوّر واضح عمّا حدث في العراق من الناحية المعمارية، ولذلك تراني مهتمًا بتفاصيل ما كان يجب أن يكون، ليكون مستقبلًا.

*هل الحداثة التي تراهن عليها في كلامك توًا "ما كان يجب أن يكون"، تعتبرها مخرجًا لأزمات كثيرة؛ عمرانية وثقافية وسياسية واجتماعية؟

هذا صحيح، أنا فعلًا مؤمن بالحداثة، فهي في تصوري تحلّ مشاكل كثيرة. إسقاط الماضي على الحاضر لا يحمل ذكاءً. الحداثة تحلّ مشاكلنا الواقعية. فكيف يمكن أن تحلّ مشكلات المسلمين الحاليين بأطروحات قبل ألف سنة؟. أنت اليوم لديك مشاكل آنية كثيرة منها ؛ مشكلة فقر ومشكلة التصنيع ومشكلة التعليم والأرض ومشاكل أخرى جديدة. وحلّ تلك المشكلات يجب أن يتمّ بطرق معاصرة وليس بعكسها، لذا أهتمّ بالحداثة. وبتصوري فإن الحداثة يمكن أن تقدّم الكثير للمجتمع، فحتّى تلك التصاميم والمشاريع هي جزء من الذاكرة ومن الحلول أيضًا. العهود السياسية خرّبت الكثير في تلك المشاريع.
نحن، إذن، أمام عائق كبير يحول دون الإلمام بمعرفة شاملة وموضوعية، لما تحقّق معمارياً، جرّاء ندرة الوثائق المصوّرة والمسجِلة لنواحي الحياة وطبيعة البيئة المبنية. وما زاد في تأثير هذا العائق، واستفحال حضوره السلبي في الخطاب، هو تلك الممارسة التي ستضحي، مع الأسف، "تقليداً". أقصد الممارسة التي دأب عليها العهد الجديد، والقائمة على "إنزال" ستار كثيف من التغاضي والنسيان والتغييب المتعمّد، عن كلّ ما يذكرّ بالحكم السابق، والقطيعة مع تاريخه وإنجازاته.
وأفترض أن أرشيف الدولة العثمانية المحفوظ في تركيا؛ وكذلك الصور المنشورة في كتب المستشرقين؛ والصور المخزّنة لدى المجموعات الخاصّة، بالإضافة إلى ما يحفظ أرشيف المؤسسات الأجنبية التي عملت في العراق، مثل شركة نفط العراق IPC خصوصًا، وكذلك أرشيف الدولة البريطانية وغير ذلك من المصادر الأخرى، هذه المصادر كلّها ستسعف الباحثين، من دون شك، بثروة من الوثائق المصورة، التي بمقدورها أن "تكشف" لنا جوانب عديدة عن طبيعة المنتج المعماري للمدن العراقية، ولا سيما في العاصمة بغداد.

*أي دور تؤدّيه روح المكان وخصوصيته في تأسيس الحداثة؟

في مجال ثقافة العمارة الحديثة في أوروبا، ساد تيار جديد، جاء ليقود عملية قطع مبالغ فيها مع الماضي والتاريخ، مستندًا إلى فكرة تقول بوجوب الانطلاق صوب مراحل جديدة تعتمد على الحديث. وشاع هذا التيار في العشرينيات، من دون مرحلة انتقالية، واستمرّ حتّى الخمسينيات. لكن، عندما حدث الانقلاب في الستينيات حول العالم، من خلال تيار ما بعد الحداثة، عاد الاهتمام بأشياء بعيدة عمّا كان سابقًا ومن بين تلك الأشياء؛ المكان. أصبح المكان بالنسبة لهذا التيار، عنصرًا مؤسّسًا في القرار المعماري، بينما لم يكن في السابق سوى مسألة وظيفية، مما أدّى إلى وجود تشابه من نيويورك إلى روما وكوبنهاغن، أي حول العالم. لكن التيار الجديد أعطى المكان احترامه وخصوصيته من الناحية الجمالية وكذلك من ناحية الذائقة الخاصّة للمجتمعات. فما يصحّ في كوبنهاغن مثلًا، لا يصحّ في القاهرة، مما يعني أنه يجب مراعاة ذلك أثناء التصميم، وألا يعتمد المعماري على ما هو وظيفي أو تعبيري محض. فالمكان هو أحاسيس أو فهم المصمم الخاص، لذا يجب احترام المكان واحترام ثقافته. وهذا ينتج عبر دراسة عميقة للتاريخ والقيم والإنجاز المعماري. الإنجاز المعماري مشبعٌ بقيم المكان. ليس في البناء المعماري العادي قيم جميلة، بينما القيم الجمالية تكون موجودة أو تتجلّى وتظهر من خلال مآثر المكان لتشعر بخصوصية العراق مثلًا.

*كتبتَ وحاضرتَ عن التلويث المعماري في العراق، وأخذت جامعة آل البيت مثالًا على ما جرى. فمن أين جاء هذا التلويث؟

جامعة آل البيت بالمناسبة من تصميم ويلسون. وكان الملك فيصل الأوّل مهتمًا بها. نعم كتبت وتحدثت عمّا جرى لها، قلت إن كنتم تريدون التوّسع فلا تلوثوا هذا المبنى الجميل، لأنه جزء من ذاكرتنا وثقافتنا. عملية الإضافات على المبنى لم تكن مثقفة معماريًا، للأسف كانت تلك الإضافات أدنى إلى الاستسهال والجهل، جهل الموظفين والإدارة والسياسيين وأصحاب القرار، خصوصًا الذين يضعون الأشخاص غير المناسبين في مناصب لا يستحقونها.

*العراقيون مغرمون بشارع المتنبي والرشيد ودجلة، فكيف تقرأ هذه اللا مبالاة والخراب الذي أصاب تلك المناطق؟

تحفظ مباني شارع "الرشيد" في أنحاء عديدة منه، خيرة النماذج المبنية وفق طراز الـ آرت نوفو "Art Nouveau" وطراز الـ آرت ديكو "Art Deco"، ليس فقط في العمارة المحلية، أقصد العراق، بل هي تمتدّ أيضًا في المنطقة، فتجد الطرازين في الدول المجاورة. الأمر المؤسف، والمثير للحزن أيضاً، أن تلك النماذج الرائعة، قد تمّ تشويهها وحتّى إتلافها في حقب زمنية لاحقة خاصّة في السنين الأخيرة. كثيرون اليوم لا يقدّرون أهمية ما يحتويه هذا الشارع الجليل، شارع الرشيد، من روائع معمارية. ففي ذاك الزمكان انبهر البغداديون خصوصًا بطراز الـ آرت نوفو "Art Nouveau"؛ الذي كانت نماذجه المبنية تصلهم عبر "كاتالوغات" مصورة، صادرة من بعض بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. ومن تلك البيانات المصورة، دأب البناة البغداديون المهرة، على الاقتباس واستلهام بعض عناصرها التكوينية والزخرفية.
العقود الماضية مليئة بالتعسف والهيمنة والإرهاب تجاه الآخرين والحروب، المصير صار مؤلمًا. لدينا مشكلة هنا، التعسف والظلم من الحكومات، وهذا شيء مليء بالانتهاكات واتهام الناس بالإرهاب وهضم حقوقها وتجيير القوانين لمصلحة الحاكم. إذن، كلّ ذلك يخلق ضعفًا بالانتماء، وعدم الحرص أمام الانتهاكات. كلّما طال زمن الانتهاكات، صار من السهل "صناعة" ضعف الانتماء. أظن أن المعماريين العرب قادرون على تقديم الكثير من الحلول لإعادة إعمار أوطاننا، فيما لو تمّ إعطاؤهم الفرصة، فهم يستطيعون تقديم نماذج رائعة لحلول ومخارج منطقية ووظيفية، إنهم مؤهلون للقيام بذلك، وأنا مطمئن لذلك.

*كثيرا ما يطرح السؤال عن أرشيف المعمار العراقي. ومؤخرًا حصل معهد ماساشوستس للتكنولوجيا على أرشيف المعماري العراقي، محمّد مكية. لماذا وكيف حصل ذلك؟

ممّا لا شكّ فيه بأن هناك "فراغاً" بصريّاً بيّناً، يشعر به كثر من المتابعين للشأن الثقافي العراقي، ولا سيما المعماريين منهم. فراغٌ يتمثّل في غياب شبه تام لوثائق تسرد طبيعة وشواهد البيئة المبنية للمدن العراقية، إبّان العقود الماضية، وتحديداً قبل وبعيد تأسيس الدولة الحديثة في بداية العشرينيات من القرن الماضي.
ولئن احتفظت ذاكرة المدن العربية والإقليمية الأخرى بخزين وافر من تلك الوثائق المتنوعة، المصورة منها على وجه الخصوص، فإن بغداد ومدن العراق عامة، لم تحظَ بمثل هذا الاهتمام، الأمر الذي جعل من "تصوّر" خصائص وخصوصية البيئة المبنية المحلية أمراً عسيراً، يلفّه كثير من الغموض والضبابية. عندنا نقص في جوانب كثيرة، واختراق الجوانب المعمارية لم يكن أمرًا سهلًا لنكمل بعضنا. ثمة حسابات وأمور كثيرة ولا يدرك المسؤولون أهمية الأرشيف. وبالرغم من أن العملية ليست سهلة، وبالرغم من وجود مشاكل بنيوية وتقسيمية لمنطقتنا، فإن الأمر يتطلب حسًا داخليًا وأمورًا أخرى يجب أن تكون موجودة. كمتابع للشأن المعماري الحداثي العراقي، على سبيل المثال، أجد فجوة معرفية واسعة تنشأ جرّاء هذا الغياب، فجوة تعيق الوصول إلى استنتاجات موضوعية لما تحقّق معمارياً، في فترات لاحقة على تكوّن ونشوء العمارة العراقية الحديثة. ورغم أن الصورة الفوتوغرافية، ما انفكت تمثّل الوثيقة الأكثر صدقية والأشمل سرداً لطبيعة المشهد المديني المسجل فيها، إلا أن الاهتمام ليس كبيرًا ويا للأسف.
أمّا بالنسبة للمعماري، محمّد مكية، فهو بنفسه أهدى أرشيفه إلى معهد ماساشوستس للتكنولوجيا. فقد وصل إلى قناعة بأن تلك المؤسسة قادرة على الحفاظ على أرشيفه. أما بالنسبة للسلطات وعدم توثيق والحفاظ على المباني، فقد أدّت إلى حالة من ضياع كثير على العراق. من ناحيتي، فقد اهتممت بأحد المباني في بغداد، وهو مبنى معماري وليس مجرد صنعة، يعود إلى بداية القرن الماضي بتصميم ألماني وعناصر أوروبية من خلال علاقات العثمانيين وعلاقتهم الجيدة بالألمان. المبنى هو الذي كان متصرفية بغداد ثم أصبح مبنى كتّاب العدل. وقد تعرّض للتخريب أثناء عام 2003، عند فترة الهجوم على المباني الحكومية. هجمت الناس على المباني الحكومية بعد سقوط النظام. سرقوا كلّ شيء، حتّى الآجر داخل المبنى سرقوه. المبنى اليوم "على الهيكل" بالتعبير المعماري.تابعت أمر المبنى وقدّمت حلًا من ثلاث نقاط: إما أن نعيد بناءه، وهو أمرٌ مكلف جدًا، أو نهدمه وبذا تفقد بغداد أحد رموزها، أو يتم تأهيله وافتتاحه كمعرض أو غاليري أو مسرح بما أنه يقع في شارع المتنبي حيث الحياة الثقافية. ويمكن إنشاء حديقة أمامه، وبذا يُحافظ على المبنى كجزء من ذاكرتنا.
قمت بمسابقة معمارية عن المبنى، وساهم فيها شبّان معماريون، وقد أخذت أمانة العاصمة باقتراحي، بيد أن تطورات كثيرة، أوقفت المشروع. ثم سافرت، ولم تجرِ متابعة للأمر. أتمنى لو يؤخذ باقتراحي اليوم، إذ يمكن المحافظة على المبنى باعتباره شاهدًا على مرحلة تاريخية من النهب، تمامًا مثلما حافظت برلين على إحدى الكنائس، فشيّدوا قربها بناء جميلاً لا علاقة مباشرة بينه وبين الكنيسة، فأضحت الكنيسة المدمرة مزارًا وشاهدًا على تلك الحقبة.


*كيف تقرأ إنجازات مواطنتك المعمارية، العراقية زها حديد، وما وصلت إليه؟

أنا مغرم بعمل زها حديد، وأعتبرها أحد أهم الأحداث في المشهد المعماري العالمي. إنجازها، إنجازٌ حقيقي؛ فأنت تعيش في بلد أوروبي، ومن أصول شرق أوسطية، وإذ بك تخترق المحظور والحدود والخطوط الحمراء وتصبح ندًا. هذا إنجاز رائع جدًا. لكن ليس من دون ثمن، فرغم الخطوط الحمراء التي تضعها ثقافة بعض البلدان الأوروبية في ألا تنافس أو أن تكون أصلًا خارج ذلك، فقد اخترقت زها حديد كلّ تلك الحواجز. أنا متأكد من أن تضحيتها ومعاناتها كبيرتان. لكنها بذكائها وعملها ونكران الذات، وصلت إلى ما فيه اليوم من نجاح ومكانة.
ضحّت زها كثيرًا في سبيل الوصول لوضع بصمتها في المعمار الحديث، كمقاربة وفهم وذائقة، فأثبتت للعالم أن أي شخص يمكن أن يقدم ويبذل ويعطي. لذلك هي عظيمة وعمارتها جميلة وممتعة وحداثية.


*كثيرا ما يجد المتابع لك تركيزك على فكرة تقول إن المعمار أيضًا يحمل بذرة حوار حضاري، فكيف تربط بين الاثنين؟

أتصوّر أن لا وجود لفئة من الناس لا علاقة لها بالآخرين، إلا إذا كانت تعيش في غابات الأمازون أو في مجاهل أفريقيا.
التداخل أو التثاقف مسألة أساسية في الرقي والتقدم، ومن دونها لا تستطيع ذلك، حتى لو كانت ثقافتك عظيمة، وهذا غير كاف. لذا من الضروري أن نكون مع الآخر. العمارة هي أوّل العناصر في المكان. والشخص الذي يأتي بعناصر جديدة، مختلفة عن العناصر التقليدية، التي نراها يوميًا من دون أن نقدّرها، يجعلنا ننتبه إليها. فهو يأتي كمعماري ليقدّم لنا قراءة أخرى ويفسّر بإبداعية. وبالتالي "ينزل" إبداع الآخر على الإبداع المحلي، ويعطينا مسالك أخرى.أنا ميّال إلى الحوار الثقافي بيننا وبين الآخر، وأدعو إليه في كلّ كتاباتي وهو مجزٍ وضروري. إنه أساس لنجاح منطقتنا. فالتأويل يضفي على الآخر الكثير من الجماليات غير المرئية لابن المنطقة. فأنا عندما أرى العناصر الإسلامية أفاجأ وأتساءل هل حقًا لدينا ذلك؟. من خلال الحوار مع الآخر، هو يستفيد وأنا أستفيد. هو يفسّر العناصر الخاصّة بنا بطريقة أخرى، تستند إلى ثقافته، وهذا يعطي جمالية وتميّزًا وإبداعًا.
انظر إلى إبداع الإسكندنافيين حين صمّموا مبانيَ ضخمة، كوزارة الخارجية في الرياض، والبرلمان الكويتي، والأبراج في الكويت العاصمة، التي أصبحت أيقونة للبلد. أقول دائمًا إن الأشياء المرتبطة بالهوّية متجددة دائمًا. الهوية ليست نظرة للماضي بل للمستقبل، وهي مفارقة. وبالرغم من أن الكويت تحتفظ مثلًا برمزيتها حتّى على الطوابع البريدية، عبر مركب بحري، إلا أنها في المقابل غنمت هوّية متجددة من خلال تصميم عالمي.
المساهمون