جيوفاني بريتسي: لا أحد يزور مسقط رأس هنيبعل

01 يونيو 2016
(من عرض التمثال في القصر الرئاسي في تونس)
+ الخط -

لعلّ من المفترض أن يكون الاحتفاء الفني والتاريخي بشخصية محورية في التاريخ القديم مثل هنيبعل، أو حنبعل بالتسمية المتداولة في تونس، أكثر ما يكون في البلد الذي عاش فيه ويحتوي على آثاره، غير أن الواقع غير ذلك تماماً.

فعلى المستوى الفني، تغيب في تونس معالم تحتفي بهنيبعل، كما أن معظم المدوّنة التاريخية حوله - وحول قرطاج عموماً - كتبها فرنسيون (وهم من أعادوا إحياء البحث في الحضارة القرطاجية زمن الاستعمار الفرنسي لتونس)، أو إيطاليون وأميركيون وإسبان، فيما تظل المساهمة التونسية متحفّظةً إلا في ما ندر.

"هنيبعل في قرطاج" هو العنوان الذي اختارته وزارة الثقافة التونسية لحدث "استعارة" تونس للتمثال النصفي لهنيبعل من "قصر كويرينالي" في روما. يوم الجمعة الماضي، وبعد أكثر من أسبوعين من عرض التمثال في دوائر رسمية ضيقة، جرى تقديم التمثال في "متحف باردو" يوم الجمعة الماضي وسيستمر عرضه شهراً.

بعد الافتتاح الرسمي، بحضور وزيرة الثقافة والسفير الإيطالي، ألقى المؤرخ الإيطالي جيوفاني بريتسي محاضرة تناولت ملامح وقراءات عن شخصية حنبعل. انطلق بريتسي من الحديث عن مسقط رأس القائد القرطاجي في مدينة تابسوس على الساحل الشرقي لتونس اليوم (المدينة تحوّلت إلى قرية شبه مجهولة). بحسب المحاضر، تتقاطع تابسوس مع سيرة هنيبعل في نقطة مفصلية أخرى، إذ استقلّ منها السفينة التي نقلته إلى المنفى بعد الهزيمة في موقعة زاما.

يلفت بريتسي، الذي تحدّث بالإيطالية والفرنسية، إلى أعماله حول هنيبعل، والتي حاول فيها أن يقاربه بطريقة شخصية ضمن معالجة نفسية أكثر منها تاريخية جافة. ركّز المؤرّخ الإيطالي على أن هنيبعل كان ابن أسرة منفتحة على الثقافة العالمية لعصرها، فاستوعب مؤثرات شرقية ويونانية ورومانية وفينيقية وغيرها، وهو ما يؤشر عليه تعدّد اللغات التي كان يتقنها، كما أن الحفريات أظهرت تنوّع المجموعة الفنية التي كان يمتلكها.

عالمية الثقافة لم تكن مجرّد خصلة ألقى بها بريتسي في محاضرته، إذ جعل منها دعامةً لتفسير جزء من العبقرية العسكرية لهنيبعل، فقد كان حديثه بكل لغات جنوده أحد أبرز مظاهر روحه القيادية التي كانت تعتمد على القرب من رجاله، إضافة إلى أن قراراته تعبّر عن استنتاجات عميقة كقوله "جبال الألب ليست مجال الآلهة" ما يكشف أن عقله كان قد تخلّص من المعتقدات العامة المهيمنة على عصره.

أتاحت له هذه الثقافة أيضاً، بحسب بريتسي، أن يستفيد من تاريخ التكتيكات الحربية التي سبقته، وخصوصاً الحروب الطويلة بين اليونان والفرس، مشيراً إلى أنه تأثر بالإسكندر المقدوني خصوصاً على مستوى المناورة، وكانت أفكاره حول التنظيمات الحربية تكشف عن اطلاع موسّع على استراتيجيات الأمم التي سبقته.

باعتباره متخصّصاً في التاريخ العسكري والديبلوماسي، يتناول بريتسي بشيء من التدقيق هذا الجانب الاستراتيجي لدى هنيبعل، حيث يؤكد أن تفوّقه العسكري في عصره أجبر قادة الجيوش التي تواجهه على أن يتحاشوه.

هنا، ينتقل المحاضر إلى شهادة في التاريخ المعاصر، حيث يشير إلى أن المؤرخين في العصور الحديثة ذكروا أن السياسيين الإنجليز في القرن التاسع عشر أشاروا إلى قادة الحرب أن يتّبعوا "خطة فابيوس" (الروماني) في مواجهة نابليون بونابرت، عبر تفضيل الانتظار وتأجيل المواجهة مع هنيبعل، مستندين إلى حوارات في مجلس الشيوخ الروماني اعتبرت أن كل معركة معه هي خسارة مسبّقة، وصولاً إلى لحظة يكون فيها الانتصار ممكناً (واترلو بالنسبة لنابليون أو زاما بالنسبة لهنيبعل).

طالما صُوّر القائد القرطاجي لكثيرين باعتباره أحد أكثر المتعصّبين، استناداً على قسمه الشهير بأن يظلّ يحارب روما طوال حياته، لكن بريتسي يذكر قراءة أخرى، إذ يرى أن هنيبعل كان قد حدَس بأن روما كانت تستعد لابتلاع البحر الأبيض المتوسط حضارياً، وقد كان حدسه في مكانه.

لعل حدس هنيبعل هذا يتواصل إلى اليوم، ألا تكشف ذلك محاضرة بريتسي ذاتها على أهميتها وموضوعيّتها؟ أفليست مفارقة أن المؤرّخ الإيطالي هو من يكتب ويتحدّث عن هنيبعل، فيما يسكت المؤرخ التونسي؟ يحيلنا ذلك إلى نظرية عالمة الأنثروبولوجيا الهندية غياتري سبيفاك عن عدم قدرة "التابع" أن يتكلّم عن تاريخه ونفسه واحتكار "الكولونيالي" الحديث باسمه.

مفارقة حزينة أخرى تتمثل في أن تمثال هنيبعل الأشهر، والذي تحوّل إلى الصورة المهيمنة له في كتب التاريخ، وحتى في إحدى أوراق العملة التونسية، هو تمثال أنجزه إيطالي آخر، لوسيو جينيو بروتو في القرن السادس عشر.

شيء من ذلك ورد في ملاحظة قدّمها أحد الحضور عند مناقشة محاضرة بريتسي، إذ اعتبر أنه على عكس الخطاب التمجيدي الذي يمكن التقاطه هنا وهناك في تونس (وزيرة الثقافة سُنية مبارك قالت في كلمتها إنه أحد رموز بلادنا)، تخلو البلاد من أي معلم يليق بهذه المكانة. لكأن التدمير الروماني للأثر القرطاجي مستمر إلى اليوم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مثل متحدّث باسم القائد القرطاجي
خصّص جيوفاني بريتسي (1946، الصورة) - ضمن بحوثه حول الحروب بين قرطاج وروما - ثلاثة مؤلفات لهنيبعل، منها أوّل أعماله "هنيبعل: الإستراتيجيا والصورة" (1984). وكان عمله الأشهر "هنيبعل، مثل سيرة ذاتية" قد تُرجم بالفرنسية بعنوان "أنا هنيبعل"؛ صيغة لا تخلو من دلالة، لكن لا غرابة في ذلك، فمعظم التاريخ الذي كُتب عن القائد القرطاجي وضعه مؤرخون رومان، ويستمر هذا التقليد لدى أحفادهم، وصولاً إلى التحدّث باسمه.


المساهمون