ذكريات شعب الشامورو

06 يوليو 2024
كريج سانتوس بيريث
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الحبّ في زمن التغيّر المناخي**: يعيد الكاتب صياغة السونيتة السابعة عشرة لبابلو نيرودا ليعبر عن حبّه لشريكته بطريقة تتماشى مع التحديات البيئية المعاصرة، مشبهاً الحب بالأنواع المهددة بالانقراض وبآخر بذرة محفوظة، مما يعكس قلقه من فقدان العالم الطبيعي.

- **الوطن أرخبيلُ انتماء**: يروي الكاتب تجربته كجزء من شعب الشامورو الذي هاجر من جزر ماريانا إلى الولايات المتحدة، معبراً عن شعوره بالضياع والانفصال عن جذوره، والحنين للوطن والتحديات في الحفاظ على الهوية الثقافية.

- **حلقات النار ورعاية**: يتناول الكاتب تأثير التغير المناخي والحروب على الحياة اليومية، معبراً عن قلقه كأب يحاول حماية ابنته في عالم مليء بالمخاطر، ويدعو إلى التعاطف والمساعدة بين البشر في مواجهة التحديات العالمية.

الحبّ في زمن التغيّر المناخي

(إعادة تدوير السونيتة السابعة عشرة لـ بابلو نيرودا)

لا أحبّكِ كما يحبُّ الناس معادنَ نادرةً مدفونةً في التراب
أو أحجاراً كريمةً يتقاتلون عليها
أو احتياطيات نفطية تُشْعل الحروب.
 
أحبّكِ كما يحبُّ المرء الأنواع المهددة بالانقراض:
على وجْه السرعة، بين المسكن وفقدانه.

أحبّكِ كما يحبُّ المرء آخرَ بذرةٍ محفوظة
في خزانةٍ تحملُ إرث جذورنا،

ليتقدَّس جسدكِ! الطّعم ينضجُ في ثماره
وتظلّ حلاوتهُ حيةً على لساني.

أحبكِ جاهلاً كيف ومتى سينتهي
هذا العالم. أحبكِ عضوياً، دون مبيدات.
أحبك هكذا لأننا سنبقى أحياء فحسب

في سماد عناقنا الغنيّ بالنيتروجين،
نلبسُ بعضنا البعض
أمتصُّ انبعاثاتك الكربونية،
ويتداخل جسدانا
فيرتفع منسوب ماء بحركِ من حرارتي.


■ ■ ■


الوطن أرخبيلُ انتماء

هاجرتْ عائلتي إلى كاليفورنيا حين كنتُ في الخامسة عشرة من عمري.
في أول يوم لي في مدرستي الثانوية الجديدة سألني الأستاذ:
من أين أنت؟ أجبته: "أنا من جزر ماريانا". قال: "لم أسمعْ بها قط،
بَرْهِنْ لنا أنها موجودة". حين خطوتُ أمام خريطة العالم المعلّقة على الحائط،
تحوّلتْ إلى مرآة: كان المحيط الهادي منقسماً، مثل جسدي، إلى اثنين
ومتقشّراً حتى حوافّه. عثرتُ على أستراليا والفلبين واليابان وأشرتُ
إلى مكانٍ فارغٍ بين هذه الدول وقلتُ: "أتينا من هذا الأرخبيل اللامرئي". 
ضحك الجميع. ورغم أنني أنحدر من بحّارة متمرسين بالمحيط، 
شعرتُ بالضياع وبأنّ سفينتي تحطّمت وغرقتْ قبالة ساحل قارة غريبة.
سألني مستفسراً: "هل أنت مواطن؟"
"نعم، جزيرتي غوام أرضٌ أميركية".
نتعلّم في مدارس أميركية، نأكل طعاماً أميركياً، 
نستمع إلى موسيقى أميركية، نشاهد أفلاماً وبرامج تلفزيونية أميركية،
نمارس رياضة أميركية، نتعلّم التاريخ الأميركي، نحلم أحلاماً أميركية،
ونموت في حروب أميركية. 
عقّبَ: "تتحدث الإنكليزية بشكل ممتاز، ولا تُخْطئ في اللفظ". 
أليس هذا ما يعنيه أن تكون شاموروياً في الشتات: أن تشعر أنك غريب
في هذه الأمكنة؟

في الأعوام الخمسين الأخيرة، هاجر شعب الشامورو
هرباً من ذكريات الحرب العنيفة، وبحثاً عن العمل والمدارس
والمستشفيات والمغامرة والحب، إلا أنّ السبب الرئيس لهجرتنا
كان خدمة العلم، فقد خدمْنا في قواعد منتشرة في أنحاء العالم.
بحسب إحصاء 2010، يعيش أربعة وأربعون ألف شاموروي
في كاليفورنيا، وخمسة عشر ألفاً في واشنطن، وعشرة آلاف في تكساس،
وسبعة آلاف في هاواي، وهناك سبعون ألفاً يعيشون في الولايات الأخرى وحتى 
في بويرتو ريكو.
نحن سكان جزر المحيط الهادي الأكثر تشرّداً على أرض الولايات المتحدة.
يتجاوز عدد الشامورويين الموجودين خارج جزرهم الآن
عدد أقربائهم الموجودين فيها، وثمة أجيال وُلدت بعيداً عن أرض الأسلاف،
مثل ابنتاي.

يستطيع بعضنا العودة إلى الوطن لقضاء العطلات،
وحضور حفلات الزفاف والجنازات،
وثمّة آخرون يعجزون عن دفع ثمن بطاقة طائرة إلى 
غرب المحيط الهادي. قد تمرُّ أعوامٌ أو عقودٌ بين الزيارات، ويشعر
المرء أنّها قصيرة كلّها. 
انقطعت صلتنا مع العائلة والأصدقاء وستواصلُ
الجزيرة التغيّر إلى أن لا تعود مألوفة لنا.
أليس هذا أيضاً ما يعنيه أن تكون
شامورياً في الشتات: أن تشعر أنك أجنبي في بلدك؟

حتى بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على حياتي بعيداً عنها
 تمرّ أوقاتٌ أشعرُ فيها بأنني أسير على
غير هدى، فاقداً لمساري أو اتجاهي. حينها أتساءل: ماذا لو بقينا؟ ماذا لو عدنا؟
حين يبدأ التيار التحتي لهذه الأسئلة بشدّكم إلى قاع المحيط،
 تذكّروا أن الهجرة تتدفق في دمنا كالجذور الهوائية لشجرة البانيان.
 تذكّروا أن أسلافنا علّمونا كيف نحمل ثقافتنا في قوارب أجسادنا.
تذكّروا أن أبناء قومنا، المبعثرين كالنجوم، يشكلون كوكبات جديدة
حين نجتمع.
تذكّروا أن الوطن ليس مجرّدَ بيتٍ، أو قرية أو جزيرة،
تذكّروا أنه أرخبيلُ انتماءٍ.  


■ ■ ■


حلقات النار

(هونولولو، هاواي)

كانت الحرارة قد بلغت أعلى درجة لها في التاريخ في شهر نيسان/ أبريل
ورغم ذلك أقمنا حفلة عيد ميلادٍ لابنتنا.

شوى أبي اللحوم على الفحم خارج البيت،
وفي داخله طهتْ أمي الأرز على البخار وشوتْ لنا
خضاراً. قَدِما من ولاية كاليفورنيا،
التي حوّل الجفاف فيها الأشجار إلى صوفانٍ سريع الاشتعال،
كما لو أن "الجنة تشتعل".
حين اشتدت الحمّى التي أصابت ابنتنا لأوّل مرّة
قال الطبيب: "هذه إشارة إلى أنها تصارع العدوى".
يزداد سفك الدماء مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب،
التي لا تعرف حدوداً. قال الطبيب: "إذا لم تنخفض حرارتها
أدْخلها إلى غرفة العناية المشددة". 
الغارات الجوية تدمّر المستشفيات
في اليمن والعراق وأفغانستان وجنوب السودان.
قالت زوجتي: "حين خرج رأسها من رحمي شعرتُ كأنه حلقات من نار".
تنفجر البراكين على طول خطوط الصدع على سواحل المحيط الهادي،
وتشعل موجاتُ الحرّ الحارقة أستراليا،
تحترق الغابات في إندونيسيا من أجل مزارع
زيت النخيل،
يتطاير رمادها كمثل طيورٍ شبحيةٍ إلى أقفاصنا
الصدرية البعيدة.
ما زلت أشتهي سيجارةً دون فلتر
رغم أنني تركتُ التدخين منذ سنوات،
لم تعد تصدر عن نَفَسي رائحة 
كمثل التي تنبعث من منفضة سجائر أبي الطافحة.
ما تزال سعلته الجافة تثقب رئتيه السوداوين
المصابتين بسرطان يُنْكر وجوده.
نَصَحنا الطبيب: "إذا عانتْ من صعوبةٍ في التنفّس أحضروا لها
جهاز الاستنشاق الخاص بالربو".
لكننا الليلة غنّينا 
تمنّينا لها عيد ميلاد سعيداً ونفخْنا على الشموع معاً
فارتعش الدخان كما لو أننا زفرنا جميعاً
أمنيةً قابلةً للاشتعال.


■ ■ ■


رعاية

استيقظت ابنتي الصغيرة من نومها
وبكتْ فحملْتُها وضممْتُها إلى صدري،
دلّكتُ ظهرها إلى أن دبّ الدفء في راحة كفّي كمثل لحافٍ عائليٍّ قديم.
همستُ لها: "بابا هنا، بابا هنا!"
نحن في جزيرة أواهو التي تبعد 8500 ميل عن سورية.
ماذا لو أصبحت الرياح التجارية للمحيط الهادي فجأةً مروحيات
وقصفتنا عشوائياً بألسنة اللهب والمسامير والشظايا؟ 
ماذا لو أنَّ الظلال التي تنعكس على نافذتي ليست لأغصان شجرة الياسمين الهندي
بل لجنود وإرهابيين يتقدمون في الحرّ؟ 
هل سنصلُ في الوقت المناسب إلى قوارب اليأس
في البحر الأبيض المتوسط؟ وإذا ما حصل هذا
هل يمكنني أن أقوّم ساقيّ إلى صارية، تتوازن
ضدّ شد التيار ودفعه.
أهمسُ لابنتي: "البابا هنا، البابا هنا".
لكن هل لديّ قوة كافية كي أحملها عبر الأسلاك الشائكة والحقد العرقي؟ 
هل لدي قوة كافية كي أتوسّل: "من فضلكم ساعدونا، دعونا نعبر فحسب، 
لسنا قنابل انتحارية". هل أتمتّع بقوة كافية كي أواصل سيري 
بعد أن تتشقّق قدماي كالفلفل الحلبي في الحقول
بعد خمس سنوات من الجفاف، الذي أصاب الإنسانية أيضاً.
تهتزّ القطاراتُ والحافلات في طريقها جيئة وذهاباً إلى مراكز الحجز.
لكن، ماذا إذا لم نصل إلى اليابسة؟ ماذا
لو انقلب المركب؟ هل تستطيع نفخ جسدك إلى عوامة
لحمل طفلك فوق المياه المضطربة؟
أهمس لابنتي: "أبوك هنا، أبوك هنا!"
إنَّ الغرق هو التهويدة الأخيرة للبحر. وضعتُ ابنتي على السرير
بعد أن هدأ نَفَسها أخيراً كمدّ منخفض.

أقول للآباء والأمهات الذين تجرأوا على العبور: 
تستحقون أنتم وأطفالكم حياة كريمة. آمل
أن يعلّم حبكم أمماً ينبعث منها المزيد من الكربون والعنف 
أن تبدي عوضاً عن ذلك تعاطفاً أكبر. آمل
أن يصبح الفرق الوحيد بين لاجئ قانوني ومهاجر غير شرعي
هو مدى رغبتنا بفتح بيوتنا وتقديم المأوى 
وأن نحمل بعضنا البعض نحو أفق الرعاية.


■ ■ ■


ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى الجبل الجليدي

(على خطى والاس ستيفنز)

1

الشيء الوحيد الذي كان يتحرّك
بين الدببة القطبية الجائعة 
حافّة جبل جليدي. 

2

نحن من بيئةٍ واحدة 
كمثل كوكبٍ 
فيه مائتا ألف جبل جليدي.

3

امتصّ الجبلُ الجليدي الانبعاثات الغازية
نحن جزءٌ كبيرٌ من المحيط الحيوي.

4

الحيوانات والبشر
أقرباء
البشر والحيواناتُ والجبال الجليدية أقرباء.

5

لا نعرفُ ما الذي نخشاه أكثر:
رعب التغيّر
أم رعب اللايقين،
تشكّل جبل جليدي
أم ما يعقب ذلك فحسب؟

6

تملأ الجبال الجليدية المحيط الشاسع
مع حطام السفن العملاقة.
كتلة الجليد
تختفي في طريقها جيئة وذهاباً.
التهديد الكامن في الشقّ
سبب لا يمكن تجنبه.

7

أيها البشر الضعفاء
لماذا تبنون جدراناً بحرية؟
ألا ترون كيف تطوف الجبال الجليدية
شوارع المدن حولكم؟

8

أعرف المد الملكيّ
عواصف رهيبة لا مفرّ منها
أعرف أيضاً 
أن للجبل الجليدي علاقة
بما أعرفه.

9

حين تحطّم الجبل الجليدي
شكّل بداية
إحدى الموجات الكثيرة.

10

على وقْع صوتِ جبل جليدي
فقد توازنه
بدأ السيّاح في القطب الشمالي الجديد
يطاردون الجليد بسرعة.

11

استكشفوا القطبين 
كي يحفروا في عرض البحر.
منعناهم في إحدى المرات،
ففهمنا خطر
تسرّب النفط على الجبل الجليدي.

12

البحر يرتفع.
لا بدّ أن الجبل الجليدي يتراجع.

13

خيّم صيفٌ طوال الشتاء.
كان الجبل الجليدي يذوب
سيواصل ذوبانه
إلى أن تتّسع له أيدينا الدافئة.


* ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر


بطاقة

Craig Santos Perez شاعر وكاتب أميركي من مواليد عام 1980، من شعب الشامورو الذي سكن في جزيرة غوام الواقعة في المحيط الهادي. يعمل حالياً أستاذاً للغة الإنكليزية في "جامعة هاواي" في مانوا. له العديد من المجموعات الشعرية، منها: "عتبة الموائل" (2020)، و"من منطقة غير مدمجة" (2023). حاصل على "جائزة مركز القلم الأميركي الأدبية للشعر" (2011)، و"جائزة الكتاب الأميركي" (2015)، و"جائزة الكتاب الوطني" (2023).

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون