"رملٌ في العيون": كيف ينظر الإسبان إلى تاريخهم الاستعماري؟

06 يوليو 2024
+ الخط -

ثمّة كتبٌ جيدة وهامّة من حيث الموضوعات التي تتناولها، وكتب أُخرى جيدة وهامّة وضرورية في الوقت نفسه. هذا هو حال كتاب "رملٌ في العيون"، الصادر حديثاً عن دار "K.o" للصحافية والشاعرة والمفكّرة الإسبانية لاورا كاسيييس.

للوهلة الأُولى، قد يبدو عنوان الكتاب شعرياً، لكن ما إن نقرأ عنوانه الفرعي "ذاكرة وصمت المستعمرات الإسبانية في المغرب والصحراء الغربية"، حتى ندرك الموضوع الهامّ الذي تتناوله الباحثة عبر 405 صفحات، تتعمّق خلالها في خبايا المستعمَرات الإسبانية، بعد عملية بحث وسفر ورحلات إلى العرائش وسيدي إفني والعيون وتطوان وغيرها من المدن، وتروي التاريخ غير المعروف لتلك المستعمرات في ذلك الجزء من شمال أفريقيا، مُعالجةً قضية واضحة هي التاريخ الاستعماري لإسبانيا طوال قرن ونصف القرن.

بأسلوب صارم وسردية بعيدة عن التحفّظ، تصف الباحثة تلك الفترة التاريخية بأنها ظلّت "مشّوهة ومخفية"، متحدّثة عن ضررٍ لم يُصلح أو لم يُعترف به حتى الآن، حيث تقول: "ها نحن الآن في عام 2024، ونستمرّ في تجاهل بعضنا البعض. إنّ عدم فهم الاستعمار الإسباني في المغرب والصحراء الغربية يعني أنّنا لم نفهم حتى الحرب الأهلية الإسبانية أو الدكتاتورية أو حتى المرحلة الانتقالية".

تؤكّد الكاتبة، في صفحات كتابها، أنّ النظرة الإسبانية تُجاه المغرب والصحراء الغربية، منذ القرن التاسع عشر، لطالما تغذّت على التفاهمات والالتفافات الخطابية، إضافة إلى انعدام الثقة والوطنية ومشاعر الحنين. ضمن هذا المعنى تهزّ الكاتبة تلك الخطابات الأكثر تكراراً وتواجهها بشهادات متواضعة، ناقلةً الأُطُر التاريخية ومفكّكةً الأوهام الاستشراقية وزيف الحرب. وفي نهاية المطاف تخلص إلى فكرة ستكون حاضرة في فصول الكتاب كلّها؛ وهي أنّ النظرة الإسبانية للمغرب والصحراء الغربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين هي نظرة استعمارية بالكامل. 

جزءٌ كبير من الإسبان لا يعرف شيئاً عن تاريخهم الاستعماري

تربط كاسيييس الحاضر بالماضي، عبر هذا الموضوع الذي تقول إنّه ليس مألوفاً للإسبان عموماً، حيث القسم الأكبر لا يعرف شيئاً عن تلك الفترة المشوّهة من التاريخ الاستعماري لإسبانيا، "لأنّ أحداً لم يخبرنا عنها لا في المدرسة، ولا في الجامعة، ولا حتى في وسائل الإعلام. كذلك تم تجاهلها بشكل كامل في مجلس النوّاب".

وهنا تُراجع الكاتبة المفاهيم المشوّهة والتي تختلط على الكثير من الإسبان بسبب الجهل أو التعتيم أو التلاعب بالرأي العام، كما تتوقّف عند بعض النقاط التي لا تزال غامضة بالنسبة إلى الإسبان وتشرحها مثل: رأس جوبي؛ وهو المنطقة المعروفة باسم مدينة طرفاية التي تقع على الساحل الجنوب الغربي للمغرب، على ساحل المحيط الأطلسي، شمالي مدينة العيون، والتي خضعت للاستعمار الإسباني في الفترة الممتدّة بين 1916 و1985، و"معاهدة واد راس" بين المغرب وإسبانيا التي تمّ توقيعها في السادس والعشرين من نيسان/ أبريل عام 1860 في تطوان، وكانت نهاية لحرب تطوان التي فرضت فيها إسبانيا على المغرب الكثير من التنازلات أهمّها توسيع نفوذها في سبتة وميليلة، والحصول على فوائد مالية.

كما تتوقّف عند شخصية القائد عبد الكريم الخطّابي لتطرح سؤالاً مفاده: لماذا لم تعترف المغرب به بطلا حتى الآن؟ إضافة إلى قضايا الفوسفات في الصحراء الغربية، وترسيخ المستعمرات في العصر الراهن وتحويل بعض المدن في شمال أفريقيا إلى مدن إسبانية أكثر من ألباسيتي أو كوينكا، تمثيلاً لا حصراً.

نحو أُطُر نظرية وتاريخية مختلفة تناسب الذاكرة الإسبانية

ولا تتوقّف الكاتبة عند هذا الحد، بل تقفز إلى الحاضر رابطة بين استعمار الماضي، وما تسمّيه ما بعد الاستعمار، حيث تثير موضوع مجزرة حدثت في الثالث والعشرين من حزيران/ يونيو 2022، عندما حاول أكثر من 1600 مهاجر القفز فوق الحاجز العبور الحدود إلى مليلية، وكانت النتيجة موت ما يقرب ثلاثين شخصاً. وتستطرد، في هذا الإطار، شارحةً ما تسمّيه استمرار منهجية المحو والتعتيم والطمس، سواء من قبل اليمين سابقاً، أو اليسار حالياً، وهذا ما تجلّى بشكل واضح باتفاقية رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز مع المغرب، متخلّياً عن الصحراويّين مرّة أُخرى.

وتوضح الكاتبة أنّ الشعب الإسباني بغالبيته يعيش حتى الآن مع فكرة أنّ الاستعمار الإسباني للمغرب والصحراء الغربية كانت له روح مختلفة عن استعمار جيرانهم الأوروبيّين، لا سيّما فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وأنّه لم يكن هناك فصل بين السكّان المحليّين وسكّان المستعمرات، وأنّ المستعمرين لم يمارسوا عمليات العنف كما حصل في عمليات استعمارية بريطانية أو فرنسية مثلاً، كما يعتقد الإسبان أنّ وجود المستعمرات كان استناداً إلى إرادة محلّية تسعى إلى تطوير المغرب بشكل عام، ناهيك عن ارتباط الذاكرة الإسبانية حول تلك المستعمرات بمشاعر البطولة والأساطير والحنين إلى الزمن الجميل. 

وتُعبّر الكاتبة عن الحاجة في إسبانيا إلى أطر نظرية وتاريخية مختلفة، ذلك أنّ أطر ما بعد الاستعمار الأنكلوسكسونية أو الفرنسية لا تُناسب الذاكرة الإسبانية، لا سيما في ظلّ التطوّرات السياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية. لذلك تدعو الكاتبة إلى ضرورة الحوار، ومن هنا تعتمد في أفكارها واستنتاجاتها على كثير من المحادثات مع مؤرّخين وكتاب مغاربة وصحراويّين مثل محمد المرابطي وباهية محمود حمادي.

توضّح لاورا كاسيييس أنّها كتبت هذا العمل بشكل أساسي من أجل أولئك الذي يعتقدون أنّ الاستعمار الإسباني في شمال أفريقيا كان أقلّ سوءاً من غيره من الاستعمارات، وأولئك الذين يعتقدون أنَّ "مستعمرات - مستعمرات" إسبانية، بالمعنى الدقيق للكلمة، لم تكن موجودة. ولكنّها تُوضّح أيضاً أنّه كتاب من أجل أولئك الذين يعرفون أنّ ذلك ليس صحيحاً.

ربّما من هنا يمكن فهم عنوان الكتاب، وفهم مقدّمته الشعرية، التي تضيء كثيراً على فحواه، وعلى الغبار المُتراكم على طبقات تاريخ قائم على الاستعمار، كلّما أزلنا الغبار عن طبقة، اكتشفنا حقائق جديدة: "قبل بضعة أشهر، في آذار/ مارس تقريباً، 'غزت' عاصفة رملية مدريد، والأخبار. لم يكن ممكناً رؤية أيّ شيء. تسرّبت الرمال من الصحراء إلى شقوق الأبواب وشكّلت كثباناً صغيرة. هل يمكن أن تكون تلك الرمال القادمة من الجنوب قد سافرت من المغرب إلينا لتجبرنا على النظر وعدم النسيان؟".



بطاقة

Laura Casielles كاتبة وشاعرة إسبانية من مواليد أستورياس عام 1986. حاصلة على إجازة في الصحافة من "جامعة كامبلوتنسي" وماجستير في الدارسات العربية والإسلامية المُعاصرة من "جامعة أوتوناما". صدر لها في الشعر: "الجندي الذي يهرب" (2008)، و"تاريخ موجز لبعض الأشياء" (2017)، و"الآثار التي تتركها الخرائط" (2019)، وفي الدراسات: "رمل في العيون" (2024/ الغلاف). حازت "الجائزة الوطنية لشعر الشباب" في إسبانيا عام 2011.

المساهمون