نهاية بروليتاري الليل

10 نوفمبر 2016
لطيفة الشخش/ المغرب
+ الخط -

ظروف

شقة دييغو مضاءة. في ظرف سنة، ملأها بأرخص الأثاث. في ظرف سنة، تعلّم كثيراً من الإنكليزية. سبع كنائس زار، وصلى في 36 قداساً.
فعل كل هذا في ظرف سنة، قبل أن يدهمه القرار فيترك وراءه ساعة الكنيسة تدق دقاتها الاثنتي عشرة، وظرْفَ القهوة مفتوحاً.
منتصف الليل: إنه المنتصف الأول الذي يمرّ على دييغو وهو ـ في ظرف لحظة ـ جثة .
***


رجل يرى الأبدية كل الأحد

في المترو، كان أحدٌ ما ينزل صبيحةَ كلّ أحدٍ ليتجوّل بين العربات.
نشوتُهُ العظمى، بُرهةَ يرى ظلال الناس وهي ترفّ على المقاعد شبه الخالية بينما السقف يغمرها بنور الكهرباء.
كان يرتعش ويحلّق لأنّه مُنح "النعمة العظيمة".
عندما يعود وتسأله زوجته عمّا رأى، كان يبتسم ويلوذ بالصمت، فتقلّد هي نبْرته المتهدّجة، ولكن بصوت أخفض:
ـ "كما كل أحد، ركبتُ خط 3، ورأيتُ الأبدية".
ثم تنفجر:
تعالوا انظروا أيها الجيران، زوجي مستعجلٌ ليجعلني أرملة!
***


الكيس

بعد جولة طويلة في الجبل، يعود إلى منطقة سكناه، ويجلس على كرسي الطريق.
إحدى يديه تتحسّس نصف سيجارة في جيب المعطف اليمنى، الأخرى تبحث عن ولّاعة في الجيب اليسرى.
نصف ساعة تمضي، والرغبة تشتدّ.
يعبر عنه أزواج متقاعدون، صاعدين إلى بيوتهم، بعد نهاية النزهة. وينتبه أنهم كل عشر أو عشرين خطوة، يتريّثون لالتقاط الأنفاس.
تنحدر فتاة لاتينية مسرعة، فيبادرها:
ـ لو سمحتِ.
تمدّ الفتاة الولاعة، وقبل أن يشعل سيجارته يقول "شكراً"
الفتاة ترد ـ "عفواً".
يشعل ويعيدها لها شاكراً للمرة الثانية.
تبعد الفتاة خطوة وتلوّح: "إلى اللقاء".
أمامه مخبزة الحي تتأهب للإغلاق. ينظر للباب المفتوح ويتوقّع:
"جئت في الموعد، سيُخرجونه بعد قليل".
يلسعه عقبُ السيجارة، فيدعسه تحت قدميه.
من ورائه، تُسمع أصوات رجل وامرأة كأنهما جالسان في شرفة. يلاحظ أن صوت المرأة سريع وله إيقاع محدد، لا تغيّره، بينما كلام الرجل تتخلله انقطاعات.
يرجع برأسه للوراء ويركزّ.
فعلاً ثمة صوتان متداخلان، فهل الصوت الذي للمرأة يأتيه من الراديو؟
لو صحّ هذا، فالرجل يكلّم نفسه.
يخجل أن يقوم ويتابع مصدر الصوت عن قرب. ثم يعود وينشغل بهما:
"مستحيل، الصوت الحي لا يتدافع هكذا".
تمر فترة ويشتد البرد، ثم يتفاجأ بالباب الحديد وقد أُنزل، وعربة المحل اختفت.
ينظر في ساعة الموبايل، " البيت، أم ..؟".
يقعقع الرعد، والبرق يكشف جانباً من عروق الجبل.
يقوم هو، ويمشي في الاتجاه المعاكس، غاضباً.
***


نهاية بروليتاري الليل

أودعَ مخطوطَ الرواية الجديدة في خزْنة الدولاب، واحتفل مع أصدقاء بمناسبة الانتهاء منها. سافر لبلاد بعيدة، ونوى أن يبعثها فورَ عودته للناشر. شهران وعاد. فتح الخزنة ليقرأها قبل إرسالها، ويضع آخر اللمسات. فوجىء بالصدأ يبقّع جميع الصفحات. فتحَ الصفحة الأولى، العاشرة، المئتين، واندهش: المادة الحمراء الهشّة المائلة إلى البُنّي طفقت تنتقل من إبهامه إلى ريقه، والطعْمُ المتخثّر مُغث.
رمى المخطوط على المنضدة ونام. تناوشته كوابيسُ كثيفة. استيقظ وفكّر في جهْد سنوات، إنّ القصدرة عملية مستحيلة، أنه لن يلمع مرة أخرى.
قام وألقم المخطوط فمَ المدفأة. تفرّس عميقاً في اللهب، ثم أطلق..

*كاتب فلسطيني مقيم في إسبانيا

المساهمون