عبد الله الحسيني في "باقي الوشم": ما الذي يجعلني أنتظر الربيع؟

17 يوليو 2024
+ الخط -

كلُّ ما يحدث في رواية الكاتب الكويتي عبد الله الحسيني (2000)، "باقي الوشم"، التي حازت مؤخّراً "جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية" في دورتها الثالثة، يحدث في انتظار حدثٍ لا يتمّ. وقد استطاعت الرواية الصادرة عن "منشورات تكوين" عام 2022 أن تترك قارئها مشدوداً إلى حدث لن يأتي، منتظراً أمراً يعرف أنَّه لن يحدث، وهو مجيء الربيع. بدا مجيء الربيع مقترناً بتحقّق الموت، لأنّ الموت وحده يترصّد مَن تقصّ الرواية حكايتهم. إنَّهم أناسٌ مرميون إلى أقصى الهامش، لا تذكرهم حكومتهم، ولا يَعتدّ بهم بلدهم؛ كويتيون لا يحملون الجنسية الكويتية. الرواية عن "البدون".

عدا أنّ الرواية تأخذ جانب هؤلاء الذين يعيشون ظروفاً صنعها شرطٌ قاس، وهو عدم الاعتراف بهم. فمكان ولادتهم لا يعطيهم الحقّ بالانتماء إليه، ومَن يُنجب منهم يعرف أنَّه يُحضِر أبناءه إلى مكان ينبذهم، وتشريعاته تجعل حياتهم شاقّة في المدارس، والجامعات، والوظائف، والطبابة، وحتّى عند استخراج شهادة الوفاة. 

تعرض الرواية حكاية هؤلاء بصورة بدا أنّ الحكاية تتكسّر أكثر مما تنبني، لأنّ فيها ألماً واستحالة، ولأنَّها تبدأ من ذروة الانتظار، وتتكشّف مصائر الشخصيات مع عبث الانتظار، وتنتهي بانتهائه. ويستنتج القارئ قبل النهاية أنّ الانتظار لن يفضي إلى شيء، وأنَّه محضُ انتظار يجعل من كلّ يوم يمضي على الشخصيات اقتراباً من أجل، وموعداً مع أجل - مهما فعلوا - لن يؤثّروا عليه. الرواية عن أناس لا يملكون من أمرهم شيئاً. يعيشون في بيوت ليست لهم، ينجبون أبناء، لكن سرعان ما يقضّ عيشهم ندمَ أنَّهم أنجبوا، واعتقدوا بإمكانية تغيير أحوالهم.

إذاً، الرواية بمجملها تنزع عن مجموعة من البشر فاعليّتهم وتُظهرهم أشخاصاً منزوعي الغد. الربيع الذي تنتظره الجدّة طوال سبعين عاماً، نعرف أنَّه مرتبطٌ بذكرى عزيزة عليها، هي ذكرى الوشوم التي رسمتها على جسدها سيّدةٌ غجرية كانت تجيء إليهم في الربيع. وقد تبعتها في المرّة الأخيرة كي ترسم لها زهرة النوير، وغامرت بالخروج عن إرادة والدتها، وكسرت خوفها بلحاق الواشمة الغجرية، واجتياز المسافات بمفردها. 

ما صنع شخصيات الرواية هو تهديد ألّا يكون لها بيت

نعرف أيضاً أنّ قطيعاً كانت الجدّة ترعاه، مات من البرد، وقلّة الموارد؛ فيما كانت تنتظر قدوم الربيع. حدثان ارتبط بهما الربيع، أحدهما ذكرى حضوره، والآخر ذكرى انتظاره. لكنّ الرواية غنيّة بالأحداث التي تجري مع عائلة تعيش ببطاقات مؤقّتة، ويعزّ على القارئ أن يدعوها عائلة كويتية، فهُم لا يملكون جوازات، ولا يحملون جنسية. وكلّ الأحداث التي تجري مع تلك العائلة بأجيالها الثلاثة، لا تعدو كونها أحداثاً تحمل فلسفة انتظار المسرحي الأيرلندي صموئيل بيكيت (1906 - 1989)، لولا أنّ الحسيني أغلق ذلك الانتظار البارع، بحدث الموت.

الصورة
عبد الله الحسيني
عبد الله الحسيني

تموت الجدّة في الصفحات الأخيرة. مع ذلك، يشعر القارئ أنّ عقداً انفرط. ومع انفراط العقد أُعيد ترتيب حكاية العائلة؛ إذ تعود غرفة الصفيح التي بناها الأب، كي يُحضّر لزواج ابنه، وقد قرّرت الجدَّة أن تسكن فيها لتراقب النجوم، وتقرأ اقتراب الربيع؛ تعود إلى الابن وعروسه. وكان عرسهما أحد الإشارات التي تُظهر عار التمييز؛ إذ عندما غفلوا عن مراقبة الجدّة؛ وضعت أغنية خاصّة بالبدون، وأخذت ترقص... ما أقلق العائلة التي أتاحت لها وظيفة الأب العسكرية أن يسكنوا بيتاً، سيخرجون منه ما إن يتقاعد، وأتاح لهم إخفاء أصولهم بادّعاء الانتماء إلى إحدى القبائل، إلى جانب أنَّهم مشمولون بإحصاء عام 1965، أن تكون لهم حظوة الحصول على جنسية وجواز سفر في يوم ما. مع ذلك، فالأغنية تُشعرهم بالتهديد، وبأنَّهم قد يخسرون ما يتمتّعون به. ولو أنّه بالقليل من التدقيق، فإنّ الأمر الوحيد الذي يحوزونه هو الانتظار.

يكاد يكون الأمر الوحيد الذي يفعله الراوي في هذه الحكاية مراقبة تلك الشخصية الاستثنائية المؤثّرة التي صنعها الحسيني، وهي الجدّة حمضة السحاب، الجدّة التي أكل البرد عظمها في قيظ الكويت. بلا شك، القارئ يستسلم لقوانين الرواية - إن كانت رواية متقنة مثل "باقي الوشم". وهكذا، نستسلم لشعور الجدّة بالبرد الدائم، وشعورها هذا يقابل شعورَ إحدى بناتها التي استطاعت أن تصل إلى كندا، وأن تنجب أطفالاً هناك، كنديِّين، واستطاعت بناء تواصُل مع العائلة عبر كاميرا اللاب توب، وقد أشهرت جوازها الكندي أمام الكاميرا، فهي لم تكن كويتية يوماً. ربّما يكون برد الجدّة، هو برد ابنتها التي دُفنت في الثلوج. تفسيرٌ يمكن أن يُضاف إلى ما يقترحه النصّ لبرد الجدّة. في الأحوال جميعها، ما جمع هؤلاء ليسَ بيت الصفيح، أو المساحة الضيّقة التي منعتهم من إقامة عزاء للجدّة في بيتهم، وإنَّما ما جمعهم؛ الانشغال المؤلم بتفسير العلاقة مع المكان، وما صنع شخصياتهم ليست بيوتهم، كما يذهب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 - 1962)، إلى تفسير العلاقة بين البيت وساكنه، إنَّما ما صنع شخصياتهم هو تهديد ألّا يكون لديهم بيت.

الأب مهزوم، يرفض استخدام زوجته مانع الحمل، والابن مهزومٌ، تدسّ والدته لزوجته حبوب منع الحمل. وهم أشخاصٌ تقضُّ عيشهم أسئلة مضنية؛ هل نقبض رواتبنا في الغد؟ هل نستطيع التسجيل في المدرسة أو الجامعة في العام القادم؟ وهل لدينا خياراتٌ أصلاً... فالاختيار لم يكن من شأنهم.

"باقي الوشم"، وهي ثاني رواية للحسيني بعد "لو تغمض عينيك" (2017)، نصٌّ موجع، قادته موهبة مؤكّدة جمعت سعة المخيّلة وبساطة التعبير ومباشرته. وقبل ذلك، أمانته، وقراءته للواقع من غير تحامُل، حتّى الاعتراضات التي كانت تحدث؛ يمثّلها الابن الذي تزوّج، وشهدنا عرسه. ونعرف أنّه لم يكمل دراسته، وقرّر أن يعمل بائعاً بسيطاً، واستمرّ يُغرّد على "تويتر" غاضباً وسط خوف العائلة عليه. إلّا أنّ رفضه تطوير حياته، واعتكافه، ليسا إلا ترجمةً للرفض الذي يقترحه النصّ، وكأنَّما "باقي الوشم"، التي أضافت إلى الأدب العربي شخصيةً تنتظر الربيع، ليست إلّا اعتكافاً أليماً عن تغيير لا يأتي.


* روائي من سورية

المساهمون