فوزي محفوظ: عمارة تونس المهدورة

08 مارس 2015
قُرب مسجد "سيدي محرز"، تونس العاصمة (تصوير: فاضل سِنّه)
+ الخط -
 
بإلقاء نظرة على التشكيل البصري لعدد من المدن العربية اليوم، تمكن معاينة حجم تنافر وتشوّهات مكوّناتها المعمارية. وهو ما خلقته موجة البناء التحديثي بغرض التوسع، بينما تبدو نواة كل مدينة من هذه المدن كما لو أنها تجمّدت في أزمنة غابرة.

تونس والقيروان نموذجان لهذا الوضع، وقد تميّزتا لقرون بجمالية المعمار وتنوّعه وثرائه، حيث كان الطراز العربي الأول الذي تأسّست عليه هذه المدن يهضم النماذج المعمارية التي طرأت مع القرون اللاحقة، على غرار النموذجين الأندلسي والتركي.

ما حدث في العصر الحديث، وبعد قطيعة حدثت زمن الاستعمار، هو أن نسيجاً عمرانياً عشوائياً في مجمله تراصّ والتفّ، حول مراكز المدن القديمة، وترامت المباني والملحقات السكنية والمحلات والمؤسسات الخدماتية على أطرافها بنسق جنوني حتى بهتت الجمالية المعمارية الأصلية.

بعض كتابات المعماريين العرب المعاصرين تلقي الضوء لفهم تعقيدات المدينة الحديثة والمشاكل الحضرية الناجمة عنها. وتقع في هذا الإطار مؤلفات الأكاديمي التونسي فوزي محفوظ المتخصص في مادة تاريخ التمدن، ونعني بذلك كتابيه "أساطير قرطاجنة" (2015) و"عمارة الخلفاء" (2013)، والتي يقصد بها "العمارة الرسمية التي أنجزها الحكام كتعبير مباشر منهم عن سلطتهم المطلقة وتنظيماً منهم للشأن العام".

فعمارة "النسق الرسمي" الذي أسّسه الخلفاء والولاة منذ العهد الأموي إلى عصر نشوء "الإمارات المحلية المستقلة" هي المكوّن الأساسي للكتل الهندسية الشامخة في المدن العربية.

ويرى محفوظ في حديث إلى "العربي الجديد" أن الدولة، باعتبارها السلطة المركزية المنظِّمة للمجتمع، قد "تخلّت عن دورها التنظيمي لمباني المدينة، ولم تعد لها تلك النظرة التي كانت ترى في العمران مكوّناً أساسياً من مكوّنات سلطتها ومجال تدخلها".

مع هذا التخلي النسبي، يعتقد محفوظ "أن المدينة قد انتقلت تدريجياً من "التصميم البيئي" أي انفتاح المباني على الداخل حول باحة مكشوفة حيث الهواء الطلق والماء والسماء والنباتات، إلى غرف ومجمعات باهتة تؤدي وظيفة الإيواء والمهام الخدماتية السريعة المختلفة".

ويضيف: "من هذا الفراغ أيضاً تسلل المستعمر الفرنسي، خلال فترة الحماية، وهيمن على المجال، فلقد كان على وعي بمسألة "هيبة الدولة" وحيوية الفضاء، فعمل على تطوير المعمار الغربي ذي المرجعيات الأوروبية على حساب المعمار المحلي".

يلاحظ محفوظ أن "الأبنية المدنيّة كالدور والقصور والمشافي والحمامات والأسواق والحدائق والعمارة العسكرية من قلاع وتحصينات وأربطة دفاعية تظهر على امتداد الشريط الساحلي"، ويستنتج من خلال ذلك أن "المعماريين القدامى قد جعلوا تصميماتهم تتطلع إلى المستقبل وتبتغي الشموخ الحضاري".

ويضيف "أما اليوم، فيلحظ الناظر إلى الأماكن العمومية في تونس وفي مصر وليبيا وغيرها من الدول بساطة التصميمات ورثاثة الواجهات. إن ذلك يعود أساساً إلى انتهاج عمارة منبتّة تماماً، فهي هجينة لا هي شرقية ولا هي غربية".

وبالنسبة لمحفوظ فإن تونس "خلافاً لدول مثل عُمان أو المغرب، لم تطوّر طرازاً معمارياً خصوصياً، ولعل هذا مرتبط بتكوين المهندسين المعماريين، فجلّهم يأخذون عن الغرب ولا يستلهمون من الموروث التاريخي". وهو لا يجد تفسيراً لإنشاء العمارات الشاهقة ذات الواجهات البلورية، والحال أن مناخ البلاد يتميّز بالحرارة وكثرة الضوء والغبار؛ علاوةً على النشاز الذي يحدثه الاختلاف وقلة التناغم البصري بين مبنيين متجاورين.

وما يقود إلى تحقيق الجودة في التصميم الهندسي، بحسب محفوظ، هو "تطعيم فن العمارة بالابتكارات وتطويرها باستمرار، وهنا يلعب النضج الفني للمعماري الدور الرئيسي على مستويات الإبهار والإبقاء على البعد الوظيفي للبناية في الداخل وفي محيطها". ومن المفترض أن "تساعد البيئة الثقافية المصمّم وتوفّر له عناصر شتّى في البناء والتزويق"، إلا أنها من جهة أخرى يمكن أن تخذله، "لكن ذلك ليس شرطاً لسوء توظيف العمارة، إلا إذا كانت تصوّرات المصمّم محدودةً".

ولدى تطبيق كل هذه الأفكار على بعض ملامح الواقع المعماري لمدينة تونس، فالحال أن الأثر الاستعماري على مستوى تخطيط المدن قد جعل الطرق الرحبة شريان المدينة الحديثة، فهي التي تؤدي إلى الساحات والمجمّعات السكنية أو الصناعية والتجارية. وذلك في قطيعة مع الرؤية التي وسمت التخطيط القديم، حيث الأزقة الضيقة للمدينة العتيقة المتسمة بالدائرية والالتفافية تبحث عن النسق الروحاني التأملي.

المصمم المعماري القديم، وفقا لمحفوظ، يبدو كما لو كان "يخشى الضياع والانفلات وعدم التحكم في المجال الواسع، فكثّف من الأسيجة والأسوار". وربّما يكون المعماري التونسي الحديث قد سقط في هذا الضياع والانفلات اللذين تحدث عنهما.

وفي سياق آخر، أصبحت مدينة مثل قرطاج مركزاً حضارياً على هامش مدينة تونس، أما على المستوى السياحي فهي في ظل قرية سيدي بوسعيد المجاورة. عن ذلك يقول محفوظ "في قرطاج تحضر بكثافة اللوحات الجدارية المكوّنة من الرخام والفسيفساء. لم يستمر هذا الأسلوب المعماري في بلادنا، فقد أفل نجمه بعد الفتح الإسلامي وأصبحت القيروان عاصمة البلاد (منذ القرن السادس ميلادي) ثم تونس مع الحفصيين (بداية من القرن الثالث عشر ميلادي)، وعندها هيمنت المواد الخزفية والجص والخشب المعشّق بالمسامير. وأصبحت قرطاج تبعاً لذلك امتداداً ريفياً أو ضاحية من ضواحي تونس".

أما على المستوى السياحي، فقد انغلقت قرطاج على بعدها الأثري بينما "انتزعت سيدي بوسعيد المتاخمة لقرطاج مركز الريادة منها، بفضل طابعها المعماري الفريد، خصوصاً جدرانها المطلية بالجير الأبيض الطبيعي والنوافذ والأبواب الزرقاء الموحدة".

تكاد سيدي بوسعيد تكون النموذج الأمثل الذي حافظ على جماليته المعمارية المتناسقة إلى اليوم، حيث اتسم الوضع الحضري العام في تونس، خصوصاً ما بعد ثورة يناير 2011، بالاضطراب والتردي.

وبرأي محفوظ فإن ذلك التأزم يعود "لكثرة المتدخلين في مجال التعمير وتشتت مراكز القرار، وغياب شرط الذوق العام عن التصميم، وخضوع مجال البناء للمضاربة وسيطرة الفضوليين عليه، علاوةً على ضعف القدرات المهنية للمصمّمين والمنفذين. وإلى جانب انتشار الانتهازية العقارية وظاهرة السطو على الأراضي وإحداث البناءات الفوضوية، ما جعل تونس عاطلة، فيما ندر، من كل جمال معماري".

المساهمون