الأنوار الأوروبية والعنصرية الحداثية

26 يناير 2016
(جوزيف رايت/ بريطانيا، 1768)
+ الخط -

في الأدبيات الثقافية العربية، تتردّد بانتظام سردية مفادها أن التوسع الاستعماري الأوروبي خان المبادئ التي أرستها حقبة الأنوار وثوراتها ونكص عنها. قد يكشف ذلك عن فهم صوفي أو حرفي للأنوار الأوروبية بوصفها "نورٌ في نور" لا تداخله ظلامة أو ظلامية، لكن الحقيقة التاريخية أعقد من ذلك.

في الواقع، تزامنت حركة الأنوار مع صعود الحركات الاستعمارية، وهي لم تنتقد هذه الأخيرة بقدر ما قدّمت لها تبريرات وأهدافاً أيديولوجية حداثية. هي رسّخت، مثلاً في الخطابات الهوياتية الأوروبية تحوّلاً أساسياً يقوم على استبدال الفوقية الروحية للعالم المسيحي بالفوقية العرقية للإنسان الأبيض. وجميع فلاسفة الأنوار تقريباً، باستثناء روسو، كانوا من المؤمنين بتلك الفوقية والتراتبية التي تفترضها بين الأعراق، وينطبق ذلك حتى على ديدرو المعروف بانتقاداته للممارسات الاستعمارية.

ومع الانتقال التدريجي لمركز الثقل من الهوية الدينية إلى الهوية القومية في البلدان التي سطعت عليها الأنوار، انتقلت حُجّة الاستعمار من نشر المسيحية إلى واجب تحضير الأعراق الأدنى والولاية عليها عملاً بقانون الطبيعة. سأكتفي هنا بعرض مقاربة فولتير (1694 - 1778)، انطلاقاً من نموذجيتها ومكانة صاحبها المحورية والأقنومية في الأنوار.

في كتابه "محاولة في أخلاق وروح الأمم"، وفي معرض هجومه على المسيحية، يرى فولتير أن هذه الأخيرة تعتبر كل البشر من نسل آدم وحواء، في حين أن الأعراق البشرية، وفق حُججه "العلمية"، لا يجمعها أي أصل مشترك. (نجد المقاربة ذاتها لدى غوته وجوردانو برونو وإسحاق لا بايرير).

انطلاقاً من هذه القناعة، يعتبر فولتير، لدينا في الواقع أجناس بشرية مختلفة، وليس مجرد أعراق، ولفظ إنسان لا ينطبق بمعناه التام إلا على الإنسان الأبيض، في حين أن الأجناس الأخرى تقل عنه مكانةً. بالتالي هو يستعمل غالباً لفظ "حيوان" للكلام عن "الزنوج" ويعتبرهم، من حيث المكانة، يقفون على مسافة متساوية من الإنسان الأبيض والقرد. لا بأس هنا من إجراء مقارنة بين موقف فولتير التنويري وموقف الظلامية المسيحية التي يهاجمها.

صحيح أن الكنيسة كانت لعبت دوراً فاعلاً ورئيسياً في استعباد شعوب القارة الأفريقية السوداء منذ خطاب البابا، نقولا الخامس، الشهير في 1454، وصحيح أنها كانت برّرت استعبادهم لاهوتياً بنسبهم إلى كنعان الذي لعنه جده نوح وحكم على نسله بالعبودية وفقاً للتوراة، بل وذهب بعض أركانها إلى اعتبار "الزنوج" بلا أرواح؛ إلا أن هذه الكنيسة نفسها كانت فرضت على الأسياد المسيحيين تطويب عبيدهم "الزنوج" وإرغامهم على اعتناق المسيحية، وفي ذلك قبول بهم كإخوة في الدين وإقرار بإنسانيتهم من حيث المبدأ. بالمقابل، مقاربة فولتير "البيولوجية" أخرجتهم من الجنس البشري من أساسه.

من جهة أخرى، يأخذ فولتير على المسيحية جذورها اليهودية ويعتبرها حجةً أساسية ضدها، فاليهود وفقاً له عرق قميء يجمع كل الرذائل والشرور، والمسيحية ورثت مساوئهم. هو يستعيد بذلك حقداً شعبوياً ذا جذور مسيحية ليعيد توظيفه ضد المسيحية نفسها، مضفياً عليه تبريرات عرقية، إلا أنه يذهب فيه أبعد من الكنيسة.

كما هو موثّق تاريخياً، لم تستطع الحضارة المسيحية، قبل الأنوار، أن تتحمل في كنفها أي ديانة أخرى عدا اليهودية (مصير كل الآخرين كان الإبادة أو الطرد)، ويعود هذا الاستثناء إلى كون الكنيسة حمّلت اليهود وزر دم المسيح، وقررت الإبقاء عليهم في حالة بؤس واضطهاد مستمرين على مرأى من المؤمنين لتبيان العدالة الإلهية وصحة الطريق المتّبع.

إلا أنها لم تعتبرهم عرقاً ملعوناً، أو على الأقل بقي لتلك المقاربة حدودها، ولا يعود ذلك فقط إلى جذور المسيح اليهودية، بل كذلك إلى واقع أن اليهودية انتشرت تاريخياً بالتبشير وكان على الكنيسة الرومانية الأولى أن تتنافس مع يهودية تبشيرية، واستمر هذا التنافس لاحقاً قروناً على هوامش العالم المسيحي، وبعدها على هوامش العالمين الإسلامي والمسيحي، كما كان الحال مع إمبراطورية الخزر (يُمكن مراجعة شلومو ساند في "كيف اخترع الشعب اليهودي؟").

بالتالي، إن كان بوسع اليهودي الأوروبي قبل الأنوار أن ينجو من الاضهاد باعتناق المسيحية، فلم يعد ذلك ممكناً بعدها، ومن المعلوم أن النازيين لم يتردّدوا في إرسال عائلات مسيحية إلى معسكرات الإبادة بحجة جذورها اليهودية البعيدة.

من جهة أخرى، إن كان فولتير يعتبر اليهود عرباً، فهو يعتبرهم أقل مرتبة من العرب الآخرين أو "الإسماعيليين"، وينسب إلى هؤلاء فضائل عديدة. هو يحاول هنا أن يوائم خطابه مع السردية المنتشرة في صفوف معاصريه من مستشرقي الأنوار الذين، وتفادياً لنسب أي دور إيجابي إلى الدين، نسبوا إلى الشعب أو العرق العربي حصراً الدور الذي لعبته الحضارة الإسلامية في حفظ المعرفة الإغريقية ونقلها إلى الغرب، وأرجعوا انحطاط الحضارة العربية وسقوطها إلى غزوات الأتراك وتعصّبهم الديني.

إن كنا اليوم ألفنا هذه السردية بعد تجوينها (نسبة إلى "جواني")، فهي لم تكن أليفة البتّة بالنسبة للجماعات الناطقة باللهجات العربية في تلك الحقبة (يمكن مراجعة "شرقيات" هنري لورنس، التي في مقالي في "العربي الجديد" "عرب ومستشرقون وخرافيون").

إلا أن الحاجة إلى إضفاء التماسك على النظرية العرقيّة، مرفقةً بالمعطيات الاستعمارية، أدت لاحقاً إلى تحوّل معاداة اليهود إلى معاداة للسامية تضع العرب مع اليهود في سلّة واحدة، ما استوجب إعادة نسب دور الحضارة الإسلامية إلى الفرس الآريين بدلاً من العرب.

لا شك أن فولتير كان ليتقلب ضحكاً في قبره لو علم أن الهوياتيين الغربيين الجدد، وبعد قرنين ونيف على وفاته، سينسبون ثورة الأنوار ومبادئها المقلّمة إلى جذور "يهومسيحية"، وسيعتبرون هذه الأخيرة بمثابة جينات ثقافية تحمل في ذاتها بذور التسامح والانفتاح والقيم الحديثة، بالتعارض مع جينات جيرانهم "العربوإسلامية" التي سيحمّلونها بذور الانغلاق والتعصّب. لا يكشف لنا التاريخ هنا عن سخريته فحسب، بل كذلك عن تهريجه وبهلوانيته.

خلاصة القول، إن ثورة الأنوار مرحلة مركّبة ومعقدة تدين لها الحداثة الأوروبية بحلوّها ومرّها. فإذا كنا نجد في كتاب فولتير "رسالة في التسامح" بذور إعلان حقوق الإنسان، فنحن نجد في "محاولةٍ في أخلاق وروح الأمم" بذور الأيديولوجيا العرقية النازية. إلا أن المقاربتين لا تتعارضان في فلسفة الأنوار، بل تتكاملان مع روح الحقبة.



اقرأ أيضاً: "جهاديو" فرنسا: خطابات محقونة بالتسترون

دلالات
المساهمون