حذاء دمشق

29 نوفمبر 2014
همام السيد/ سوريا
+ الخط -
السماء الرمادية التي هبطت علينا بينما كنا نعبر من "سجّو" في سوريا نحو "كلس" في تركيا، هي السماء الرمادية ذاتها التي علَت رأس المجند، الذي رصدنا بعينين ممتلئتين مللاً من أعلى برج المراقبة على الحدود السورية الأردنية. لا أعرف فيمَ يفكّر الجنود على الحواجز وقرب الحدود. الملل غالباً.

الملل من سماء رماديةٍ تنكح بالبرد عظامَهم، لا ملاحم ولا بطولات تمنحهم شعور المغامرة كما تتناقل الأخبار والقصص والروايات. الملل ذاتُه قادني في ساعات الضجر نحو كل الذكريات التي تثير الحنين. الملل هو أصل الحنين. الحنين لبلد نهش سنيّ عمرِنا وتركنا أنصاف وحوش نسعى باحثين عن الرغبة.

كانت السماء رماديةً عندما انتعلت حذائي المهترئ الذي خبّأتُه منذ الصف السابع كتذكار لسنوات الدراسة الإعدادية. ورثتُ السماء بغيومها عن رحلات جدّي في بلاد الشام، خزّنها بأسفاره في سرج حمار مع القهوة المرّة، فأصبح للغيم مرارة لاذعة لا تعرف الحدود.

ودخلت مدرسة عين ترما الإعدادية في ريف دمشق، وقفت أمام "أبو غضب"، الموجه المدرسي العتيد، بكامل جسدي الهزيل والرعب الاشتراكي البعثي المنشور كالرسومات البائسة على جدار المدرسة الأسطوري. قال لي، وقد رسم ابتسامة ساخرة: "مفكر حالك رئيس يا عرصة!". وابتدأت أُولى حصص المرحلة الإعدادية بكفٍّ حار سلخ جلدي عن وجهي، وأخذ معه كلّ ما تبقى من دهشة للمطر والسماء الرمادية والبنّ واللاحدود.

الحذاء المهترئ كان يزرب الماء إلى قدميّ فأجد صعوبة في المسير، يختلط جلدي مع الوحل فأشعر بقدميّ تذوبان بالسخم. السماء الرمادية لا تتوقّف عن المطر في عين ترما، والطرقات أنهر وحل بلا نهاية، ذهبَت أوقات التأنّق للدخول إلى عالم الأحلام بعد إشارة الزبلطاني. كان يكفي عبورُنا الإشارةَ ليعرف الجميع من أين نأتي، بقع الطين الملتصقة على ظهر البناطيل تفضح هويتَنا، نحن المتسللين إلى عالم العائلات العريقة والنجوم والفنانين والموسيقيين و"الفهمانين".

خمسة حواجز ينبغي عليّ عبورُها للوصول إلى أبو ظهربالة. خطتي في المسير تقتضي عبور بساتين عين ترما نحو حرملة، ومن ثم المرور بأطراف جوبر وتخطّي "سوق الخضرة" وصولاً إلى ساحة التحرير. العجيب أن قدمي لم تكبر منذ الصف السابع. ليس لديّ قدمان كأخيل تحميانني طيلة تلك الفترة من الموت، فأنا هزيل حتى السخرية.

كان ينبغي أن أخوض عراكات كثيرة، وأتقن وضع الشفرة تحت الشفاه لأحفظ هيبتي أمام طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية في الغوطة. لم أكن رئيس عصابة لكنني كنت الأكثر قدرةً على تسديد ضربات مؤذية والهربِ بأسرع ما يمكن، ولي الفخر أنني كنت الشرارة لأكثر من عشرين عراكاً سببتُها لعصابة أبي ظهربالة، انتهت بتكسير عظام ثلاثة شبان وتوريم عين أحدهم وفقد خمسة شبان وعيهم.

كنت الأقرب إلى أبو ظهربالة، شيخ الحشاشين في الغوطة وموزع "المادة" في ثلاث كليات وأربعة معاهد. كبرنا على أطراف المدينة منبوذين نراقب شوارع الحمراء وباب توما والقصاع وأبو رمانة كأننا الذباب يقترب من أطباق الحلويات، ولم يكن لنا من سلوى سوى الغيم الرمادي، نرتب فيه أحلامنا وولعنا بأغنيات الترحال والموسيقى الخارجة من الحجارة السود وخلاخيل الفتيات المنتشرات على أطراف الوديان في القرى البعيدة. على سطح منزله في الطابق الخامس في زملكا كانت أضواء المدينة تبدو كما لو أنها حلمٌ يقبع فوقه كابوس. كان يتساءل: "ألا يبدو القصر الجمهوري كرجل يبول على المدينة؟ وكأنه فتحة شرج موجهة نحو البيوت؟"

استطعنا بأعجوبة دخول الجامعة، وكانت لنا فلسفتنا في الحياة، ولم نكن نحب "المثقفين والثقافة"، كان يكفي أن نلتقي أحد المهتمين بالمسرح القومي أو سينما تاركوفسكي حتى نمطره سخرية، واكتشفنا فلسفة كازنتزاكيس قبل قراءة زوربا، فقال لي ذات مرة: "هل حقاً يستحق كل هذا التقدير؟ عليّ منذ هذه اللحظة البدءُ بكتابة رواية لأصبح أشهر راوٍ في العالم".

وبين عين ترما والزبداني كنا نكتشف الخيط الرفيع بين الحاجة لإظهار أنك تعرف وبين أن تكون أنت المعرفة. وفيما كنا نشرب الشاي على الحطب على إحدى تلال بلودان ونراقب الفتيات وهنّ يتراشقن بالثلج ومن خلفهن تمتد السماء الرمادية بلا نهاية، قال لي: "لا أحتاج إلـى كل فلسفات اليونان والفلسفات الشرقية لأعرف نفسي، أليس أصل المعرفة هو أن تعرف نفسك؟!".

التقيت أبو ظهربالة عند الساعة السادسة مساء، كانت تلك المرة الأخيرة التي دخلت فيها دمشق. وقفنا بالقرب من ساروجا حيث كان المقهى يغصّ بالمنظّرين والمثقفين والناشطين والمخابرات. قال لي ضاحكاً: "لدمشق ثورتُها الخاصة، كيف يجتمع كل هؤلاء في المكان نفسه؟!". مشينا نحو شارع العابد لنأكل سندويش شاورما، جلسنا مثل قطين مرعوبين في الشارع، وبينما كانت دمشق تغرق بضجيج السهر، كان علينا أن نقضم أصابعنا ونغرسها بالدم، ونحصي ببلادة عدد الموتى الذين كنا نأكلهم مع الزعتر والزيتون كل صباح، ونهمس في سرّنا: "الله يرحمهم". سألته: "ما الخطة؟"، قال لي: "الحجر الأسود، وأنت؟"، قلت: "درعا".

التهمنا طعامنا بصمت ونحن نحملق بالوجوه، كنا نعتقد أننا سوف ندخل المدينة مرة أخرى فاتحين. أكلنا طعامنا ونحن نحدّق بوجوه المارّة غير مصدقين بلادة المدينة وبلادة الوجوه التي تطفر منها سمنة مقززة ورخاء ونهم للتسوق والثرثرة، وعصابة أبو ظهربالة آنذاك تغصّ في كل لقمة وكأنّ لطعامهم رائحة الدم. ارتُكبت الكثير من المجازر آنذاك. قال لي ونحن نسير نحو شارع الحمرا: "ألا ينبغي أن يسقط هذا العالم القواد؟! نحن نعيش على أكداس من العظام والدم، ما الذي يجعل الناس تستمر في حياة كهذه؟! عالم مجنون في علب كبريت، يكدّس أوهاماً عن السعادة والتفوق والحرب والذكاء والتميّز والظرافة".

كنّا اثني عشر شاباً من شتى المدن النائية والأرياف المعدمة، احتللنا الجامع الأموي في وقت مبكر من المرحلة الإعدادية، وكنا ننتشر في أزقة دمشق كما تنتشر الفئران التي تستمتع بسرقة أي شيء. لم نكن عصابة روبن هود لكننا بالتأكيد كنا الأكثر كيداً في تصدير المضايقة لأيّ شخص لم نكن نرضى عنه. وحين نعود إلى الغوطة في المساء، نبحث عن الدفء في جلسات الشتاء الطويلة التي كانت تخدّر ما تبقى من الوعي هرباً من كل المتحذلقين والمخابرات والشرطة والخونة والجيش والمؤامرات.

وذات يوم، وفيما كنت عائداً من درعا متجهاً إلى زملكا في رحلة عبرت خلالها السماء الرمادية وثلاثة عشر حاجزاً للجيش والمخابرات، استغرقتُ فيها الوقت نفسه الذي كان يلزم جدي لقطع المسافة على حماره من قريتنا إلى فلسطن، التقيت في ساحة زملكا عصابة أبو ظهربالة التي كانت تتجه من زملكا إلى عين ترما لتشهد البلدةُ يومها أولَ مظاهرة.

كنت وأبو ظهربالة قد خرجنا حديثاً من السجن، وكنا نعي أن دخولنا دمشق هو أكبر مخاطرة وحماقة نرتكبها في حياتنا. إعدامات ميدانية شهدناها في المعتقل، شبْح وكهرباء في الخصيتين، صلب بمسامير حقيقية، نتن الجلد الذي تفسّخ من ضيق الزنزانة المنفردة التي تزدحم بأكثر من عشرين معتقلاً. قال لي: "يجب أن أقوم بشيء أخير"، واتجه نحو أحد الجدران الواقعة بين الشعلان والحمرا، ووقف قرب حائط نمت عليه ياسمينة. فتح سحاب بنطاله، وقال: "سأتبوّل في مدينة الياسمين"، وبدأ الماء الأصفر يرسم قوساً مائلةً، وأبو ظهربالة يضحك ويردّد: "سأتبوّل في مدينة الياسمين، والأمويين، والآراميين، والفينيقيين". صوت ضحكه يتعالى، وقطرات البول تتناقص آخذة بالتنقيط. أغلق بنطاله وهو يقول متنهداً: "ما نفع الياسمين إذا كان أنفك محتقناً بالخراء".

ومن بعيد جاء الصوت المرعب لخطوات تركض باتجاهنا، وركضنا في الأزقّة بحثاً عن ملاذ. وفي الوقت الذي كنا ننظر في الوجوه أملاً في مساعدة، خرج علينا أصحاب المحلات يطاردوننا. كانت قدمي تؤلمني في الحذاء الضيق، فمنذ سنة ونصف سقطت كل الأحذية التي اشتريتها في مظاهرات كانت الاشتباكات هي السمة المشتركة فيها، فـ"المراجدة"– على حد تعبير أبي علاء في درعا- تصبح أمتع في الأحذية.

في كل مظاهرة وعندما نفتقد إلى الحجارة كنا نمسك أحذيتنا ونرمي بها عناصر الأمن، ونركض حفاةً تحت سماء رمادية كالحة تغصّ بأرواح تائهة تبحث عن العدالة. لم أكن أرغب برمي هذا الحذاء، كنت أحمله معي كوشم دُقَّ في كعب قدمي ليذكرني بسنوات الفزع والسماء الرمادية.

استطعت الوصول إلى عين ترما على الرغم من مطاردة شنيعة قام بها عناصر الأمن والشبيحة، ومن عين ترما اتجهت إلى درعا. الرحلة من درعا إلى حلب لازمها الكثير من التفاصيل والأحداث، كاميرا وأقلام، انهيارات ونساء وبواخر وأسلحة بمختلف الأنواع، وتلال بعيدة وسماء رمادية امتدت في كل اتجاه دون بداية أو نهاية. لكنّ قدمي لم تكن كقدم أخيل ولم تكبر. لاحقاً، حُرمت من دخول درعا بسبب منعي من دخول الأردن، وفي محاولة للعودة إلى درعا عن طريق ريف دمشق الغربي استطعت الوصول إلى أبو ظهربالة.

في منتصف المسافة بين بيت تيما وخان الشيح، كانت إحدى القطع العسكرية تدكّ الخان بالصواريخ، وفي عتمة الليل أشعلت الراجماتُ السماء، فامتزج الرمادي بالأحمر المتوهّج. على الطرف الآخر من أوتستراد السلام وقف أبو ظهربالة ينتظرني بعد غياب طويل، كان يكلّمني عندما سمعت أصوات انفجار الصواريخ حوله عبر سماعة الموبايل، ارتجف صوته لحظتها وهو يقول لي: "أعتقد أننا لن نرى دمشق ثانية، هذه المدينة لم ولن تكون لنا، إنها مدينة العرصات!".

لم أستطع الوصول إلى خان الشيح، ولم أرَ أبو ظهربالة. وكنت قد نذرت أنني عندما أعود إلى دمشق معه سأنتعل الحذاء وأدخلها به فاتحاً. لم أعد أسمع أي شيء عنه. يقولون إنه غادر سوريا، وأخبار أخرى تقول إنه استشهد في الخان. ومنذ عدة أيام سمعت أنه استشهد في جوبر.

أحاول أن ألبس الحذاء مرة أخرى في قدمي فالسماء اليوم رمادية، لكن قدمي قد كبرت بالفعل، كما أن الحذاء قد اهترأ تماماً. أتأمله جيداً. أفكر قليلاً. أرمي حذاء دمشق في القمامة تحت سماء رمادية كالحة تمتد من نافذتي دون حدود أو جغرافيا.

المساهمون