الجزائر: المدينة البيضاء تنام باكراً

01 أكتوبر 2014
الجزائر في بطاقة بريدية (1912)
+ الخط -
باتت مدينة الجزائر العاصمة تسكن الأغاني والروايات التي تقول "زمنها الجميل" في الماضي، وتتحسّر عليه بنبرة فيها الكثير من الأسف، نظراً إلى حاضرها المفتوح على التشوّه العمراني والركود الثقافي والفنّي.

مدينة تنام باكراً، وتصحو متأخرة، على غير المعتاد، بعدما فقدت الحركة التي اشتهرت بها مكتباتها ومقاهيها ومؤسساتها الثقافية في العقود الثلاثة التي سبقت ثورة التحرير، وتلك التي تلت الاستقلال الوطني (1962)، منضمّةً إلى قائمة المدن الخاملة.

المكتبات تحوّلت إلى محلات لبيع الأكل الجاهز، وما بقي منها، مثل "العالم الثالث" و"كلمات" و"الراشدية"، لا يفي بالغرض؛ والمقاهي التي كانت حاضنة للفن والفنانين، مثل "التلمساني" و"ملاكوف" و"طانطفيل"، إما أغلقت أبوابها، أو ضبطت إيقاعها على السرعة، فباتت فضاءات بلا طاولات ولا كراس ولا "ورق". أما المؤسسات الثقافية، مثل المسرح الوطني والمكتبة الوطنية واتحاد الكتاب ومتحف "الباردو" وقاعة "الموقار"، فباتت تنشط موسمياً، وكأنها تجامل جمهورها لا غير.

حميد عبد القادر (1967) يرصد في روايته الأخيرة "توابل المدينة" ملامح هذا التراجع والتشوه في الذوق والطقوس والحراك الثقافي في الجزائر العاصمة، ويقارب السياقات التي أدت إلى ذلك، من خلال حكاية السيدة "جنات"، الأرستقراطية المهتمة بالتحف والموسيقى العالمية، والتي سيقتلها "ولد الشعبة"، الشابّ النازح من الريف، مقابل مبلغ من المال ومنصب من رجل في الحزب الحاكم يريد موت السيدة، لأنها تملك وثائق تطعن في مصداقية مشاركته في الثورة.

يعتقد عبد القادر أن التراجع الثقافي المسجَّل على مستوى المدينة، يعود أساساً إلى مسألة تراجع دور النخبة البرجوازية، ونكستها، وغيابها في المحصلة: "تعرضت هذه الشريحة لكل أنواع التحقير والرفض والتهميش من قبل السلطة المدعومة بتصوّر شعبوي واعتقاد خاطئ بأن البرجوازية سايرت الطروحات الاستعمارية في مطلع القرن العشرين، حين راحت تلهث وراء وهم "التفرنس"، فقامت الثورة التحريرية على تصوّر عدائي لها.

وبعد الاستقلال، وجدت هذه البرجوازية نفسها، بحسب عبد القادر، تعاني ويلات تصوّر أُحادي وإهمال مقصود. وقد ساهمت الرواية الجزائرية في مرحلة السبعينات في محاكمة هذه البرجوازية وتصويرها في هيئة وحش إمبريالي مفترس: "بموت البرجوازية، ماتت المدينة، واحتضرت الثقافة، من منطلق أن هذه الفئة الاجتماعية هي الأكثر قدرة على تفعيل الحياة الثقافية".

وحين سألنا الروائي والمترجم محمد ساري عمّا كانت عليه الجزائر العاصمة من حركة ثقافية، راح يتذكّر الأسماء العربية والغربية التي زارتها وأقامت فيها نشاطات ناجحة، في الأدب والمسرح والسينما والتشكيل والرقص، مفسّراً ذلك الزخم بكون المؤسسة التي انبثقت مباشرة بعد الاستقلال كانت تحمل مشروعاً حضارياً كبيراً، قد نطعن في توجهاته الكبرى، لكننا لا نستطيع أن نطعن في صدق حماس القائمين عليه.

"كان هناك جيل من الكتّاب الشباب ملأ الدنيا بكتاباته وأغانيه وأفلامه ومسرحياته (المسرح الهاوي مثلا)، فكان شعلة حقيقية، بعثت حيوية كبيرة في مفاصل المدينة التي كانت لا تنام، خصوصاً أن الحكومة كانت توفر النقل والأمن والمرافق".

كما أشار صاحب رواية "الورم" إلى اللحمة التي كانت قائمة بين الشعب والسلطة الحاكمة، مما جعل هذه الأخيرة تسمح بالنشاط وتشجّع عليه، وتسند مهمة تسييره إلى مثقفين حقيقيين ذكر منهم المسرحي مصطفى كاتب والجامعي محمد الصدّيق بن يحي.

من جهته، ألحّ الناشط الثقافي فتح النور بن إبراهيم على عدم إغفال سنوات العنف المسلّح في التسعينيات ومخلفاتها، ونحن نقارن الحاضر الثقافي للعاصمة بماضيها، فهذه التجربة، بحسبه، أدّت إلى تصفية نخبة كبيرة من الفاعلين، وإلى تهجير نخبة أخرى، ومن بقي ما زال مصدوماً وخائفاً حتى اليوم.

بن إبراهيم دعا إلى نقاش وطني تشارك فيه جميع المنظومات المعنية بالمدينة، من أجل إعادتها إلى نبض الحياة من جديد: "لا بدّ من تحسيس إعلامي، وتجنيد المؤسسات التربوية، وإشراك المبدعين، وتحفيز التجار لفتح محلاتهم، كما يجب فرض مواقيت النقل، وتوفير الحماية، والأهم أن يكون المشرفون على العملية متشبّعين بثقافة المدينة الحضرية".

وشكك الروائي ورئيس "منتدى المواطنة" كمال قرور من إمكانية أن تعود العاصمة الجزائرية إلى سابق عهدها ثقافياً، لأنها بحسبه تصر على أن تبقى عاصمة للمال والأعمال والسياسة، ولا تريد الارتقاء ثقافياً.

صاحب رواية "الترّاس" يقترح أمام هذا الوضع عاصمة ثقافية بديلة، قريبة من العاصمة أو على طول الطريق السيّار شرقاً أو غرباً، تكون ذات مميزات حضرية وسياحية، وتتوفر على هياكل قادرة على استيعاب مشروع العاصمة الثقافية، من قاعات للعرض والمسرح والسينما والمحاضرات، وورشات تكوين، توضع تحت إشراف نخبة من صناع الثقافة داخل البلاد، مع وجوب الاستعانة بالخبرة العالمية.

دلالات
المساهمون