الفجر الملعون

17 مايو 2016
نجمة الصبح، كوكب الزهرة، نقطة أمام الشمس (فرانس برس)
+ الخط -

هو الفجر.. أنهى آخر المؤذّنين نوبته. صدح ليل المدينة بستة أذانات يختلف بعضها في الوقت والصوت والمضمون في أقلّ من عشر دقائق.

قام المصلّون الذين ليسوا عن صلاتهم ساهين. معظمهم تلكأ عن الذهاب إلى المسجد ونيل بركة الجماعة. بعض المساجد لم تُقم الجماعة أساساً، فلا مصلّين فيها ولا إمام... هو مجرّد صوت تسجيل عتيق يبث أذاناً لا يدعو أحداً إلى صلاة في مسجد. وإن جاء مصلٍّ لم يأتِ مرة أخرى والتزم المنزل، وراهن على بركة أصغر في صلاته.

الفجر موعد النائحات.. هذا الفجر بالذات تعلو فيه أصوات كثيرة لنساء. يتركنَ بعض الرصيد من النياح، الذي تصل حدّته إلى العويل، للنهار المقبل وجمهوره الحاضر من المعزّين. عند الفجر يؤدّينَ دور وسيلة إعلامية بأخبارها العاجلة المتكررة المزعجة على هاتفك المحمول. أخبار تدعوك في كلّ مرة إلى التخلص من التطبيق أملاً في التخلص من إزعاجها، لكنّك تعود إليه عند أيّ حدث أمني أو كارثي. هو حبّ المعرفة، بل حبّ معرفة مصائب الآخرين حصراً، كأنّ فيها تعزية على وجودك المستمر أكنتَ ناجحاً أم فاشلاً.. مؤمناً أم ملحداً.. سعيداً أم تعيساً.. متفائلاً أم متشائماً.. متأقلماً مع وضعك أم تنتظر وقتاً ضائعاً أعطيته لنفسك كي تقرّر من بعده الاستمرار أو الانتحار.

النائحات وسيلة إعلامية جيّدة في معايير هذا الزمن، زمن الإعلام التقليدي الأخير. وسيلة قديمة جداً، لكنّ فيها كلّ مقوّمات إيقاظ النائمين مرعوبين مزعوجين متسارعي النبض. تصرخ إحداهنّ: "يا إمّي" لتتبعها أخريات بالصرخة نفسها بصوت موحّد أو أصوات. بعضهنّ يمدّ الياء إلى ما لا نهاية. وبعضهنّ يذهب إلى أصوات لا تستوعبها حروف الهجاء.

مع الفجر، يستيقظ مرضى مسنّون كذلك. يصرخ أحدهم بكلّ الشتائم التي أطلقها في حياته أو سمعها. يحضر إليه من يجالسه بعد محاولته التأقلم مع موجة الأصوات الأخرى، فلا يتحقق له الأمر مع موجة المسنّ. يصرخ به: "ماذا تريد؟". يجيب: "أريد ماء يا كلب". يصرخ به أكثر: "لكنّ الماء هنا إلى جانبك... اشرب". يقول له بصوت خفيض: "لا شكراً، سأنام". ينام قليلاً ثم يعاود الصراخ بعد قليل طلباً للماء.

في الفجر، أصوات ذبائح تتعذّب. تُنزَل من الشاحنات إلى محلات الجزارة بوحشية.. تتعذب. تنتظر سكين الذبح.. تتعذب. تُذبَح وتطلق عويلاً أخيراً. صوتها يقترب من صوت البشر كثيراً. لكنّ أحداً لا يهتم أساساً بذلك، فالأصل هو ما أحلّه الله، ولا نائحات من أجلها.

الفجر ليس فجراً دافئاً وردياً تملأه أمنيات قلب يانع، وهي ترقب القمر المنقلب بدراً، وتترصّد الشمس في حمرتها، وتنتظر معها نجمة الصبح لتطير معها حيث تتحقق.

الفجر غالباً ما يكون ملعوناً.


دلالات
المساهمون