مذ بدأ الفلسطينيون يخرجون في مسيرات العودة في غزّة، بمناسبة الذكرى السبعين للنكبة، راح الصغير عز الدين صمصوم يشارك فيها إلى جانب رفاق له لم يبلغوا سنّ المراهقة.
يوم الجمعة 23 أغسطس/ آب الماضي، بثّ المصوّر الصحافي حيدرة الشريف تسجيل فيديو على حسابه في موقع "فيسبوك" وثّق فيه "مشهداً بطولياً" في واحدة من مسيرات العودة عند حدود قطاع غزّة المحاصر. في ذلك التسجيل الذي أثار ضجّة كبيرة على "فيسبوك"، يظهر الطفل الفلسطيني عز الدين كمال صمصوم (12 عاماً) وهو ينقذ الشاب أحمد سلطان (18 عاماً) الذي أصيب بكتفه على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلية، على بعد أمتار قليلة من تمركزها، وسط تراجع المتظاهرين الآخرين خوفاً من سلاح الاحتلال على السياج الحدودي جنوبيّ القطاع. ويصوّر التسجيل كيف حاول الصغير إسعافه، فخلع قميصه القطني ليغطّي به جرحه، الأمر الذي شجّع عدداً من المتظاهرين على التحرّك بدورهم.
يقول الشريف لـ"العربي الجديد": "منذ انطلاق مسيرات العودة، سجّلتُ عدداً كبيراً من اللقطات التي تصوّر مصابين وشهداء. لكن مشهد الطفل الذي توجّه صوب الشاب المصاب بكل تلك الشجاعة والقوة متحدياً القنّاص الإسرائيلي، دهش الجميع". ويشير الشريف إلى أنّ "المصاب بقي وحيداً لبعض الوقت وهو ينزف من دون أن يتجرّأ أحد على الاقتراب منه، ثمّ جرى عز الدين نحوه".
"البطل" بين رفاقه في غزة (محمد الحجار) |
في حيّ البراهمة، غربي مدينة رفح، جنوبي قطاع غزة، يسكن عز الدين مع عائلته التي تعود أصولها إلى قرية يبنا المحتلة في عام 1948 والتي تشتهر بالحمضيات والزيتون، والواقعة في محافظة الرملة المحتلة. مذ كان في الرابعة من عمره، أخبره جدّه وجدّته عن قريتهم، شارحَين له أنّهم ليسوا من مدينة رفح وأنّ فلسطين محتلة من قبل الصهاينة. ويقول عز الدين لـ"العربي الجديد": "أشارك في مسيرات العودة منذ بدايتها، وأنا شعرت بغضب أكبر تجاه الاحتلال أكثر عندما أصيب والدي في خلال إسعافه جريحاً. حينها، كنت بعيداً عنه ورحت أسمع من الناس أنّه أصيب في قدمه، فأسرعت إلى النقطة الطبية حيث وجدته مع إصابة كبيرة.. وأجهشت بالبكاء". يضيف صمصوم: "كثيرون يقولون لي ولأصدقائي: ابقوا في منازلكم، فلا عودة للفلسطينيين. لكنّ أملي أنا كبير. وأتخيّل قريتي مع منازل صغيرة شُيّدت بحجارة بنيّة اللون ومزارع وأشجار، لا تشبه الحيّ الذي نسكنه".
مع والده كمال على مقربة من السياج الحدودي (محمد الحجار) |
ويخبر عز الدين أنّ "صديقي موسى أبو حسين (12 عاماً) أصيب في قدمه قبل ثلاثة أشهر، فيما كان قريباً منّي. أمّا أنا فأصبت بطلق مطاطي في صدري، وشعرت بألم كبير". ويسأل: "كيف أبقى في المنزل وقد كنت شاهداً على إصابة والدي وصديقي من قبل قوات الاحتلال؟"، مضيفاً أنّ "والدي علّمني كيفيّة وقف نزيف في حال لم أكن أملك أيّ أدوات إسعاف أوليّة". ويتابع: "وعندما رأيت أحمد مصاباً أمامنا من دون أن يقترب أحد منه، ركضت صوبه وسألته عن مكان إصابته. بعدها ساندني آخرون". ولا يخفي عز الدين أنّه شعر "بالسعادة عندما صار الناس ينادونني بالبطل. وفي اليوم التالي، لمّا ذهبت إلى المدرسة، صار المدرّسون يطلبون منّي إخبارهم عن إنقاذي المصاب وعن شجاعتي، وبعضهم التقطوا صوراً معي". ويكمل: "أتمنّى أن أصير طبيباً في يوم لأعالج المصابين والمرضى".
أثر الطلقة المطاطية واضحة على صدر الصغير (محمد الحجار) |
كمال حسن صمصوم (42 عاماً) والد عز الدين وستّة أبناء آخرين، أصيب في السادس من إبريل/ نيسان 2018، عندما كان يحاول إسعاف مصاب بالقرب من السياج الحدودي. يخبر "العربي الجديد": "رحت حينها أزحف باتجاهه حتى لا أصاب بالرصاص الإسرائيلي، لكنّني حين وصلت إليه أصبت في بطني وفي قدمي". وقد خضع صمصوم إلى عدد من العمليات الجراحية وما زال حتى اليوم يشكو من أوجاع مرتبطة بإصابته تلك. ولا تنتهي هنا آلام العائلة، فقد خضعت زوجة كمال، والدة عز الدين، إلى عملية قلب مفتوح في العام نفسه. لكنّ كلّ ذلك لم يحبط العائلة، وممّا زادها فخراً هو المشهد الذي ظهر في خلاله عز الدين وهو ينقذ الشاب الفلسطيني الذي سقط أمامه برصاص الاحتلال. وقد أشاد كثيرون بالصغير البطل، لا سيّما من القيادات الفلسطينية والمؤسسات الطبية والاجتماعية التي كرّمته.
ويقول كمال: "على الرغم من كلّ التضحيات التي يقدّمها الأب في غزّة والمعاناة في ظلّ الحصار، لا بدّ له من أن يشعر بالفخر عندما يرى أنّه أنجب طفلاً شجاعاً متمسكاً بقضيّته ويعرف معنى الإنسانية". يضيف أنّ "الأطفال في غزة محاصرون ومجبرون على متابعة كلّ الأحداث في القطاع والوطن مذ يبدأ بإدراك ما يجري من حوله. الأطفال في غزة يكبرون على صوت القصف وانقطاع الكهرباء وهم يعرفون جيداً من سرق أرضهم. على الرغم من أنّنا نحاول أحياناً أن نخفي الحقيقة عنهم حتى يعيشوا كما أطفال العالم، غير أنّنا لا نفلح. السياسة تدخل في كلّ تفاصيل حياتنا".