وسط الاحتجاجات التي تغطّي لبنان من شماله إلى جنوبه، فيما العاصمة بيروت تبقى المركز، تخطف طرابلس عاصمة الشمال اللبناني الأنظار لتبدو "نجمة الساحات"، فهي فاجأت الجميع بحراكها الذي أتى بمختلف الألوان.
في ساحة عبد الحميد كرامي، وسط مدينة طرابلس، التي تُعرَف باسم "ساحة النور" أو "ساحة الله"، يتجمّع منذ أيّام آلاف من أهالي المدينة ومن أهالي المناطق الشمالية في مهرجان للفرح. هناك، حيث حلّ مجسّم كلمة "الله" محلّ تمثال لعبد الحميد كرامي في عام 1984، قرّر المنتفضون رفع صوتهم ليلاً ونهاراً. وفي الليل، يُضاء مجسّم كلمة "الله" التي يستخدمه الإعلام غالباً لدعم نظريته حول "ظلاميّة طرابلس"، فيما تُعزَف الموسيقى في الأرجاء.
على أنغام أغنية "إنساي" لمحمد رمضان وسعد لمجرّد، رقص الطرابلسيّون ليل السبت - الأحد وغنّوا "إنساي.. يلا باي"، موجّهين كلمات الأغنية إلى السياسيين جميعهم من دون استثناء. كذلك ردّدوا شعاراتهم بصوت واحد، من قبيل "ثورة ثورة ثورة" و"الشعب يريد إسقاط النظام" و"قوموا يا طرابلسية" وغيرها. وعلى الرغم من أنّ الليل كان طويلاً، فإنّ أهلها استيقظوا باكراً اليوم الأحد وعادوا إلى الساحة نفسها بالحماسة والثبات نفسَيهما.
عند الساعة العاشرة صباحاً من اليوم الأحد، كانت ساحة عبد الحميد كرامي تستفيق من ليلها الصاخب. الباعة المتجوّلون الذين يتوزّعون عادة في شوارع طرابلس تجمّعوا كلّهم في تلك الساحة، مسوّقين القهوة والدخان والكعك. من جهته، أوقف بائع "غزل البنات" درّاجته عند ناصية الشارع، عارضاً الأكياس زهرية اللون على جانبَيها، فللأطفال كذلك حصّتهم.
وعلى تلك الدرّاجة، جلست طفلة رافعة العلم اللبناني. والأعلام التي يرفعها الأطفال هي الأكثر بروزاً في الساحة، إذ إنّهم يُحملون على أكتاف آبائهم. بين الجموع، النساء سجّلنَ حضورهنّ الكثيف، فيما خُصّصت كراسٍ للمتظاهرين المتقدّمين في السنّ حتى لا يضطروا إلى العودة إلى بيوتهم بسبب التعب. أمّا التنوّع الطائفي والطبقي والاجتماعي الذي تشتهر به المدينة لكنّه يُطمَس تحت أخبار تتكرّر عن جولات عنف بين أهل المدينة الواحدة وعن انغلاق المدينة على نفسها، فقد كانت الساحة مرآة له.
مهدي كريمة مشغّل الموسيقى الذي أشعل ليل طرابلس، يقول لـ"العربي الجديد": "أريد أن أوصل رسالة إلى كل اللبنانيين عن صورة طرابلس الجميلة. وأنا أردت أن أُبعد المتظاهرين عن أيّ من مظاهر العنف وحرق الدواليب، وأجمعهم حول الفنّ والفرح". بالنسبة إليه، فإنّ "الموسيقى هي أقوى رابط بين الناس، وأكثر مدينة تحبّ الموسيقى والأغاني والفرح هي طرابلس، والدليل أنّه في عطلة كلّ نهاية الأسبوع يتوجّه أبناؤها إلى المناطق اللبنانية الأخرى للسهر". وهكذا، للمرّة الأولى منذ عقود، لم يضطر الطرابلسيّون إلى ترك مدينتهم في ليل السبت - الأحد بحثاً عن فسحة للفرح، فسهروا في "ساحة النور"، في قلب المدينة، يغنّون ويرقصون حتى ساعات الفجر.
من جهتها، تشارك تغريد مطر في الاحتجاجات لأنّها "عاطلة من العمل". هذا ما تقوله لـ"العربي الجديد"، مؤكدة أنّ "الشعب اللبناني محروم من كلّ شيء والمسؤولين يسعون إلى إبقاء الوضع على حاله. هم إذا خلقوا لنا فرص عمل، هذا يعني أنّنا سوف نتوقّف حينها عن تسوّل لقمة العيش منهم، بالتالي لن نعود بذلك تحت إمرتهم". وتؤكد تغريد أنّ "طرابلس تضمّ شخصيات هي من أغنى أغنياء لبنان وربّما من أغنى أغنياء العالم، ومع ذلك لا يتعبون أنفسهم في إنشاء مشروع واحد في المدينة يخلق وظائف للأهالي وينعش الاقتصاد". وتشير تغريد إلى أنّ "قلبي وقلوب الطرابلسيين جميعاً ترقص فرحاً في حراكنا"، وتتوجّه إلى الطرابلسيين واللبنانيين عموماً: "يا بتنزلوا يا بتنذلّوا".
مجد المصري، طالب في الجامعة اللبنانية الأميركية، يرفع العلم اللبناني مع مجموعة من أصدقائه متذمّراً من "فساد الدولة اللبنانية فيما يتعب أهلنا لسداد تكاليفنا الجامعية". ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الصورة الملتصقة ظلماً بطرابلس على أنّها مدينة السلاح والانغلاق وأنّها ضدّ الجميع، لا تعبّر أبداً عن المدينة التي يقف شعبها موحّداً اليوم"، مضيفاً "أشارك في الاحتجاجات إلى أن يسقط القادة جميعهم".
وسط الوجوه الفرحة والمستبشرة خيراً من صحوة اللبنانيين جميعهم، كان وجه "جوكر" حاضراً في طرابلس. عبد الله الأيوبي رسم على وجه سمات "جوكر" (الشخصيّة الرئيسية في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه) وكتب على يده "ثورة، كلّن يعني كلّن"، قبيل انتقاله من بلدته في الكورة (شمال) إلى طرابلس ليشارك في الاحتجاجات.
يقول لـ"العربي الجديد": "اخترت هذه الشخصية لأنّني شاهدت الفيلم أخيراً وتأثّرت بالروح الثورية لشخصيّته الرئيسية"، مضيفاً "هذه ثورة ضدّ كل السياسيين من دون استثناء، وثورة طرابلس خصوصاً لها سحرها الخاص".