سعر الفائدة في الأرجنتين وجنون الرأسمالية

25 يونيو 2018
ووجهت خطوة الحكومة بمظاهرات ضخمة (فرانس برس)
+ الخط -
إذا كان الاشتراكيون لا يعتبرون رأس المال ضمن عناصر الإنتاج، وأن العمل هو عنصر الإنتاج الوحيد، والرأسماليين يكوّنون أموالهم عبر سلب العمال حقوقهم، فإن الرأسمالية جعلت من رأس المال عماد النشاط الاقتصادي، وجُعل سعر الفائدة مكافأة رأس المال على مخاطرته في النشاط الاقتصادي، ولو أن الرأسمالية جعلت العائد على رأس المال هو الربح أو الخسارة حسب نتائج النشاط لتغلّبت على جزء كبير من سلبياتها.
والحقيقة أن كلاً من العمل ورأس المال له دوره في النشاط الاقتصادي دون شطط، وأن الخروج عن التوظيف الحقيقي لدور عنصري الإنتاج الرئيسيين يؤدي إلى جنوح سلبي بالنظام الاقتصادي.

ونظراً لسيطرة الرأسمالية على مقدرات النظام الاقتصادي العالمي، وجدنا لسعر الفائدة دوراً كبيراً في صناعة السياسات المالية، بل قُدم سعر الفائدة وأطلق له العنان ليهدم اقتصاديات وأسواقاً، كما شاهدنا في الأزمة المالية العالمية في 2008، إذ انهارت بنوك تجارية عالمية، ولولا تدخل الحكومات لانهارت اقتصاديات مثل أميركا وأوروبا.
إلا أن العالم لم يتعلم الدرس من أزمة 2008، رغم إقرار العديد من الاقتصاديين وصانعي السياسية المالية بأن التمويل بالديون وإعمال سعر الفائدة، كان وراء الأزمات المتكررة في أميركا وأوروبا، وكان لذكرهم ضرورة التمويل بالمشاركة أثر محدود، لم يفعل على أرض الواقع بالشكل المناسب.

وبقيت تجارة الديون، الجيدة منها والرديئة، للوصول إلى أرباح وهمية، وحصول مديري الائتمان والبنوك على مكافآت بملايين الدولارات سنوياً، بينما الاقتصاديات القومية تتعرض لمخاطر كبيرة، ويشرد الفقراء، وتهدر الموارد.
وتشهد العديد من العملات المحلية حالة من الاضطراب في سعر الصرف أمام الدولار والعملات الرئيسة، ومن بين تلك العملات عملة الأرجنتين، وقد لجأت حكومة الأرجنتين إلى إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي مؤخرًا، لتحصل على أكبر تسهيل ائتماني في تاريخها بقيمة 50 مليار دولار على مدار السنوات الثلاث المقبلة.

ووجهت خطوة الحكومة بمظاهرات ضخمة، إلا أنها لم تستطع وقف اتفاق القرض، ولا ينسى المواطنون ما مرّت به بلادهم من أزمة المديونية الخارجية التي عرضتهم للإفلاس في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، واستمرار أزمتهم لقرابة عقدين من الزمن.
وكانت الخطوة المستغربة في إطار معالجة الحكومة لإنقاذ عملة الأرجنتين من الانخفاض بمعدلات أكبر مما هي عليه، هي رفع سعر الفائدة من 27.5% إلى 40%، وهي الخطوة التي يمكن أن نصفها في إطار اقتصادي بحت بالجنون! فهل يعقل أن يقبل مستثمر على الاقتراض بفائدة 40%؟

قد يسارع المدخرون لوضع أموالهم في البنوك للحصول على هذا المعدل الكبير في سعر الفائدة، لأنهم لن يجدوا أي نافذة استثمارية يمكنها أن تعطيهم هذا العائد، ويتوقع أن يسارع كذلك مستثمرو الأموال الساخنة من خارج الأرجنتين لاغتنام هذه الفرصة، وهو ما حصل بالفعل.
والنتيجة المنتظرة لاقتصاد الأرجنتين هي مزيد من الركود، لأن النشاط الاقتصادي هناك يعتمد على التمويل البنكي أكثر من التمويل الذاتي، خاصة المؤسسات.
فأي نشاط اقتصادي يمكنه أن يحقق عائداً يفي بتكلفة التمويل 40%، فضلاً عن تكاليف باقي جوانب الإنتاج من رواتب ومستلزمات إنتاج، ومصاريف إدارية، وبلا شك فإن المستثمر لا بد له من هامش ربح، فهل يعقل أن يكون هناك نشاط لإنتاج السلع أو الخدمات يدرّ هذه العوائد.
إن الربح المرضي في هذه الحالة، ولو بنسبة 10% كربح صافٍ للمستثمر، سيكون شبه مستحيل.

وقد ترفض البنوك في الأرجنتين قبول الودائع من المدخرين لارتفاع تكلفة سعر الفائدة، إلا إذا كانت تقبل الودائع لإعادة إقراضها للحكومة في أدوات الدين من أذون وسندات، وتضمن العائد على هذه المخاطرة.
وبخلاف الاستثمار في الدين الحكومي ستكون البنوك أمام تحدٍّ كبير في تسويق مدخرات المواطنين لدى المستثمرين، وهو ما يعرضها لخسائر، خاصة في حالة الركود وارتفاع معدلات التضخم السائدة هناك. ومن الجنون أيضاً أن يستمر سعر الفائدة عند 40%، لأكثر من الأمد القصير.

والدوران في فلك الرأسمالية من دون تدخل مناسب في إدارة النشاط الاقتصادي يجلب مثل هذه الأوضاع المتردية التي تشهدها الأرجنتين، والمرشح لها العديد من الدول الصاعدة والنامية، خاصة في ظل السياسات المالية والنقدية الجديدة التي تنتهجها أميركا؛ معقل الرأسمالية، فحينما كانت أميركا تمر بمراحل ركود وأزمة اقتصادية في مطلع الألفية الثالثة، تبنت سياسات مالية تتجه نحو صفرية سعر الفائدة، وظل السعر لسنوات يتراوح بين صفر و0.25%، ولم يتحرك السعر إلا بعد تحسّن معدلات البطالة والتضخم، واستعادة الاقتصاد الأميركي عافيته في نهاية 2016.

والغريب أننا لم نسمع من صندوق النقد الدولي، على مدار ما يزيد عن نحو عقد ونصف العقد من الزمن، أي نصائح توجه لأميركا بضرورة رفع الفائدة، أو رفع قيمة عملتها، التي كانت تحرص على تخفيضها كذلك خلال تلك الفترة.
وحتى حينما قررت أميركا رفع الفائدة، كان تحذير صندوق النقد عاماً وموجهاً لكافة الدول، على لسان كريستين لاغارد مديرة الصندوق، من أنها تخشى حرب رفع أسعار الفائدة من أجل التنافس على جذب الاستثمارات، لكنها لم توجه نقداً أو لوماً مباشراً لأميركا.

إن أزمة الأرجنتين وغيرها من الدول الصاعدة والنامية، تفضح دور المنظمات المالية الدولية، لكونها تكرس أزمة تلك البلدان عبر آليات الاقتصاد الرأسمالية، بدلاً من أن تكون عوناً على الخروج من تلك الأزمات، خاصة في دول تزداد فيها الكثافة السكانية، وتتعاظم بها الآثار الاجتماعية السلبية من بطالة وفقر. 

صحة منطق الأردوغانية

يتبنّى الرئيس التركي أردوغان موقفاً عدائياً تجاه سعر الفائدة ويراه "مصدراً لكل الشرور" وموقفه تجاه الفائدة ليس وليد أزمة انخفاض الليرة مطلع مايو/ أيار 2018، لكنه موقف ثابت منذ فترات طويلة، فقد صرّح بذلك حينما كان السعر عند 13%، وهو معدل كان أعلى من معدل التضخم بنسبة قليلة أو مساوياً له.
إن موقف أردوغان ليس وليد دوافع أيديولوجية تجاه سعر الفائدة فحسب، لكنه نتيجة شكوى يلمسها من يحتكّ بالسوق التركي، حيث يشكو أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة من ارتفاع الفائدة، وأن البنوك تحصد نتائج أعمالهم، وأن أصحاب المشروعات يخرجون مع نهاية العام بلا ربح، سوى سداد مستحقات البنوك، أو التعرض للخسائر والخروج من السوق.

إن حاجة الدول النامية والصاعدة الآن إلى خفض الفائدة مشابهة تماماً لما كان عليه الوضع في أميركا مطلع الألفية الثالثة، إذ تحتاج هذه الدول إلى ارتفاع معدلات الاستثمار، ووجود تمويل طويل الأجل لمشروعاتها التنموية، وليس تلك الممارسات التي تتسم بالأجل القصير، وفي أدوات الاستثمار غير المباشرة مثل الأذون والسندات الحكومية.
إن استمرار الفائدة عند تلك المعدلات المرتفعة في الدول الصاعدة والنامية لن يمكنها من تحقيق مشروعاتها التنموية، كما أنه يساعد على استمرار معدل التضخم مرتفعاً في جانبه الأصعب، وهو جانب العرض، المتمثل في رفع تكاليف الإنتاج.


المساهمون