بلغت الأزمة الاقتصادية في لبنان ذروة تاريخية أفضت إلى استقالة حكومة سعد الحريري، الأسبوع الماضي، تحت ضغط الشارع المحتجّ على الفساد، وهو الشارع الذي أسقط حكومة عمر كرامي لصالح أبيه الراحل رفيق الحريري قبل 26 عاماً لأسباب مشابهة ظاهرياً. وفي التجربتين كان المواطن هو الضحية.
في عام 1992، دفعت ضغوط نقابية وشعبية، رئيس الحكومة آنذاك عمر كرامي، إلى الاستقالة من منصبه الذي تولاه منذ 24 ديسمبر/كانون الأول 1990، في عهد الرئيس إلياس الهراوي، قبل أن يتولى المنصب نفسه في 26 ديسمبر/كانون الأول 2004 في عهد الرئيس إميل لحّود، ليُضطر مرة أخرى إلى الاستقالة بضغط من الشارع إثر اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005.
إثر السقوط المدوّي الأوّل لحكومة كرامي، تشكّلت حكومة بدا طابعها انتقالياً، ترأسها رشيد الصُلح في 16 مايو/أيار 1992 في "عهد الهراوي"، ولم تستمر إلا أشهراً معدودة انتهت في آخر أكتوبر/تشرين الأول 1992. علماً أن الصُلح كان سبق له أن تولى المنصب لسبعة أشهر فقط بين عامي 1974 و1975 مع اشتعال الحرب الأهلية في عهد الرئيس سليمان فرنجية.
ثم دخل لبنان بعد ذلك مرحلة "الحريرية" بامتياز، ليتولى رفيق الحريري سُدّة السلطة التنفيذية التي عزّز "اتفاق الطائف" من صلاحياتها، 5 ولايات بدأت بثلاث مرّات متتالية، جميعها في عهد الهراوي، اعتباراً من 31 أكتوبر/تشرين الأول 1992، وانتهت في 4 ديسمبر/كانون الأول 1998، حيث أفضت الخلافات السياسية مع رئيس الجمهورية الجديد، قائد الجيش السابق إميل لحود، إلى إخراج الحريري من الحكومة لصالح سليم الحص، قبل أن يعود الحريري إلى منصبه لولايتين متتابعتين في "عهد لحود"، بين 27 أكتوبر/تشرين الأول 2000 و26 أكتوبر/تشرين الأول 2004، ليتسلم كرامي المنصب مع استعار الانقسام السياسي في البلد وما أدّى إليه من تراجع اقتصادي كبير، إلى أن اغتيل الحريري في فبراير/شباط 2005.
وشكّل اغتيال الحريري تحدياً اقتصادياً كبيراً بالنسبة إلى لبنان قد لا يقل أهمية عن التحدّيات السياسية والاجتماعية الطارئة، وكذلك الأمر إبّان العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2006. إلى أن بلغت الأزمة الاقتصادية في البلد الآن مرحلة جديدة أكثر حرجاً من أي وقت مضى، باتت تضع مواطنيه ومؤسساته ومصيره المالي السيادي واقتصاده الوطني، فضلاً عن نظامه السياسي، أمام منعطف تاريخي.
لكن على طول الخط الحكومي منذ ما بعد الحرب حتى الآن، ما الذي برز في المتغيّرات المالية والاقتصادية والمعيشية واستطاع أن يطيح حكومات من عروشها، بغض النظر عن العوامل السياسية المحتملة وراء الضغوط على السلطة التنفيذية، مباشرة كانت أم مستترة
الدولار سلاحاً سياسياً
من الواضح أن التمهيد لسقوط، أو إسقاط، حكومة كرامي في 1992 وحكومة سعد الحريري قبل أسبوع، ثمة قاسم مشترك بينهما كامن في "أزمة الدولار" والتهديد المباشر من المضاربين لسعر صرف الليرة. قبل 26 عاماً، وتحديداً في خريف 1992، ارتفع سعر الدولار قياسياً إلى 2825 ليرة، رغم استقرار البلد سياسياً وأمنياً بعدما وضعت الحرب الأهلية أوزارها، بالمقارنة مع 455 ليرة عام 1987، أي مع اقتراب الحرب من خواتيمها، 3.5 ليرات للدولار عام 1983 الذي أعقب الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982.
وفي خريف 2019 لم تسقط حكومة الحريري الابن إلا بعد أزمة دولار كانت بدأت ملامحها بالظهور في مايو/أيار الماضي، وتمثلت في شحّ سيولة العملة الخضراء، وتأثير ذلك سلباً على الحركة المصرفية والتجارية عموماً، وهو ما دفع "مصرف لبنان" المركزي، قبل مدة قصيرة، إلى اعتماد آلية تسمح بتمويل مستوردي المحروقات والقمح والدواء بالسعر الرسمي المعتمد منذ بداية "الحقبة الحريرية" عام 1992 والبالغ متوسّطه 1507.5 ليرات، علماً أن ذلك لم يمنع الدولار في سوق الصرافة لبلوغ 2000 ليرة وأكثر أحياناً على وقع الاحتجاجات التي انطلقت في 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن يعود الدولار إلى بعض التوازن ليهبط دون 1700 ليرة هذا الأسبوع.
الفساد والطائفية مصدر العلل
ولئن كان لشحّ الدولار وارتفاع سعر صرفه مقابل العملة الوطنية تأثيره المهم في مجرى الأحداث سابقاً وحالياً، فإن منبع العلل الأساسي في لبنان يمكن اختصاره في الفساد المستشري في إدارات الدولة كما في القطاع الخاص، وأحياناً كثيرة بتواطؤ بينهما، مقروناً بالطائفية التي رسّخها "اتفاق الطائف" مع ما يستتبعها من تقسيم للنفوذ وإنعاش للمحسوبيات، والانطلاق في إدارة شؤون البلد من ذهنية المصالح الضيقة والشخصية والمذهبية على حساب الصالح العام في شتى الشؤون والمجالات، ومن ضمنها كل ما يهم المواطن الذي يدفع في نهاية المطاف ثمن سوء الإدارة ومراكمة أعباء الدين العام، على خزينة الدولة المرهقة والقريبة من الإفلاس، بانتظار إنعاشها بمزيد من الديون الخارجية تحت ستار "القروض الميسّرة" وفُتات من "الهبات".
هذا الفساد والإهدار في المال العام على مدى سنوات أنتج جموحاً هائلاً للدين العام من نحو 3 مليارات دولار في 1992، أي عندما تسلّم الحريري الأب رئاسة السلطة التنفيذية، وهو العام نفسه الذي استقالت فيه حكومة كرامي، إلى أن بلغ 86.29 مليار دولار في نهاية أغسطس/آب 2019، لتتجاوز نسبة هذا الدين 152% قياساً بالناتج المحلي الإجمالي، صعوداً من 131% عام 2012، ومن 47% عام 1992، وفقاً لأرقام وزارة المالية و"جمعية مصارف لبنان".
ومن أسوأ ملامح هذا الإهدار أزمة الكهرباء التي استهلكت ثلث الدين الحكومي منذ التسعينيات، فيما لا يزال المواطن والمؤسسات يكابدون من التقنين وسوء التغذية بالتيار الكهربائي وتقطّعه من دون انتظام، وهو ما أنعش "مافيا" المحرّكات الخاصة التي تفاقم أعباء الناس بفواتير عالية تُضاف إلى فواتير "مؤسسة كهرباء لبنان" العاجزة عن تأمين التغذية على مدار الساعة، وتستنزف من الخزينة العامة سنوياً سلفات وصلت أحياناً إلى ملياري دولار، مع أن غالبية الأطراف السياسية النافذة في الحكم تعاقبت على تسلّم وزارة الطاقة والمياه الوصيّة على مؤسسة الكهرباء، لكن من دون جدوى.
المواطن والاقتصاد... ضحية
في كل مرة تُسيء السلطة السياسية في أدائها مصحوبة بتطورّات إقليمية ودولية غير مساعدة، يدفع المواطنون الثمن، فضلاً عن الاقتصاد الوطني ككل، وذلك عن طريق زيادة الأعباء الضريبية عليهم والحد من مكتسباتهم وحقوقهم، وكأنّها كانت على طول هذا المسار تفخّخ مجتمعاً انفجر أخيراً بين يديها، فثار منتفضاً في وجه السياسات المجحفة بحقه، ورافضاً لاستئثار أهل السلطة بالمناصب والمكاسب، في حلقة لم تكن تزيد الفقراء إلا إفقاراً والأغنياء ثراءً.
كما لم تُنتج هذه السياسات إلا اضطراباً في النمو الاقتصادي، حيث تبين في أحدث تقارير البنك الدولي في أكتوبر/تشرين الأول 2019 أن لبنان، في توقعات النمو الاقتصادي، قد حلّ الأسوأ لسنة 2019، باعتباره الدولة العربية الوحيدة التي يُرتقب انكماش اقتصادها 0.2%، بينما تتصدّر اللائحة جيبوتي بنسبة 7.2%.
وقد عرَف لبنان 6 محطات انكماش لاقتصاده منذ الثمانينيات، وكان من بين أقساها إبّان الاجتياح الإسرائيلي لأراضيه عام 1982، ما أنتج انكماشاً حاداً بلغت نسبته 36.79%. ومع انتهاء الحرب الأهلية في أكتوبر/تشرين الأول عام 1990، انكمش اقتصاده بنسبة أقل بلغت 13.42%، قبل أن تتوالى موجات النمو في الفترات اللاحقة، وإن على نحو متقطّع.