فيونا آبل... في الشارع وتحمل قطّاعة أقفال

31 يناير 2021
جعلت من التسلط حالة اجتماعية تتجاوز الإطار النسوي الرائج (Getty)
+ الخط -

"ببساطة، أنا شخص على درجة غير معقولة من الحساسية. بحيث إن شاهدت أمراً أو سمعت أحدهم يقول شيئاً؛ فسأختبر ما رأيت وسمعت في أعماقي بكل شدة وكثافة. فإن كنتَ ممن يحيا الأحداث بشدة ويعيشها بعمق، فستعرف الكثير عن نفسك. وحين تعرف نفسك على نحو أفضل، ستتعلم الكثير عن الحياة". 

تلك الجمل ليست قولاً مأثوراً لأحد الفلاسفة الحكماء، أو لواحد من الرهبان المتنسّكين ممن يعتكفون سنينَ طويلة معتزلين المدنية في كهوف صخرية بعيدة، بل إنها لنجمة موسيقى بوب صاعدة من هارلم في مدينة نيويورك الأميركية. كانت حينها لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها، واسمها فيونا آبل. 

يمكن النظر إلى مسيرة آبل الفنية على أنها أحد معالم القوة الإبداعية النابذة داخل الحقل الثقافي الأميركي، الذي تبلور بعد الحربين العالميتين، إلى أن تعولم في عقد التسعينيات، والذي حددت بيئته الإنتاجية قوانين السوق ونواظم العوائد الربحية. تحت مسمى الصناعة الترفيهية بفروعها وحواضرها، من سينما في هوليوود إلى مسرح في برودوي في نيويورك، وموسيقى في شيكاغو ولوس أنجليس.

آبل، مثلها مثل المُغني توم ويتس، والمخرج السينمائي ديفيد لينش، سعت دوماً وتسعى قدماً إلى الخروج على، وليس الخروج عن، تلك المؤسسة الترفيهية العظمى القابضة والقاهرة والقادرة على كل شيء، أو ما تُدعى بـ "الصناعة"، عن طريق هزّها من الداخل، من دون حرمانٍ طوعيٍّ لوسائل إنتاجها ومصادرها المتاحة، علاوة على منابر التأثير والاتصال بجمهورها الواسع سعة العالم.

هذا ما أدركته المراهقة الصغيرة والواعدة جيداً. تطلعت إلى هوليوود، لؤلؤة الساحل الغربي الفنية بوصفها المنارة. غادرت حي الولادة والنشأة، لتبدأ الطَرق الدؤوب على بوابات الشركات الإنتاجية الكبرى في كاليفورنيا، كأي يافع طموح يعي بعمق ورؤية جليّة حجم الموهبة ومدى قوة الإرادة لديه، ويسعى بالتالي إلى التألق الفني والكسب المادي والحضور الجماهيري. 

مهارة تلقائية في العزف على البيانو اكتسبتها فيونا منذ سنّ مبكرة. ضرورة داخلية ظلّت تدفعها إلى كتابة الأغاني إيماناً بقدرة الموسيقى على جعل حيوات الناس من حولها أبهج حزناً وأفضل تعاسة، وفوق كل ذلك، فكرٌ إبداعي متقد يناهض السائد ويستولد حلولاً فنية فريدة، سواءً في الكتابة أو التلحين أو الأداء، تؤججه حساسية عالية وتدفعه شجاعة فنية منقطعة النظير.   

كل تلك العوامل الداخلية، وعلى الرغم من جمالها الخارجي الأخّاذ، ظلت تجعل منها عصيّة على التعليب والتسليع، ضمن فئة نجمات البوب كـ آريانا غراندي اليوم، ومادونا الأمس. بالمقابل، ذات العوامل أخذت تجذبها نحو فضاءات التجريب والتغريب والتفريد في كل من المضمون الفكري والشكل الموسيقي لأغانيها، وتحثها على الاجتهاد في تحميل المُخرج الإبداعي رسالة تنبع من الذات لتصب في العالم من حولها.

 

العنصر الذهني والبعد الفكري في تكوينها النفسي قد وضع أداءها الفني على طريق تطوير وتقييم دائم مستمر ومضطرد، وأخضعه لزمام السيادة والسيطرة، حتى في أكثر اللحظات هشاشة وانكشافاً على المسرح، أو أثناء إجرائها اللقاءات والمقابلات، جاعلاً منها نموذجاً للذات الفنية الواعية المُحققة لتلك الوحدة التعبيرية المنشودة بين العقل وبين العاطفة. 

لا غرابة، إذن، في ضوء كل هذا، ألا تحوز فيونا آبل على وافر القدر من الاهتمام والإضاءة من قبل "الصناعة" الترفيهية الأميركية. بل إن مجرد نجاحها في انتزاع جائزة غرامي وحيدة كأفضل أنثى تُغني الروك لقاء أغنية Criminal "مجرم" من ألبوم أصدرته سنة 1996 بعنوان Tidal، يُعدّ بحد ذاته اختراقاً للمؤسسة الإنتاجية التقليدية من الصلب وفي الصميم، ومن خلال أحد أركانها؛ موسيقى البوب.  

سيرورة نضج مضطّرد عادةً ما تميز الفنان الحقيقي، سواءً لجهة الحلول الفنية والإبداعية أو الرؤى الكونية إزاء الحياة والعالم. على الرغم من قلة مخرجاتها النسبية من جولات وألبومات، وبأثر المناخات السياسية الراهنة المتلبّدة بسحب الحراك والسجال الداخلي الأميركي، وتداعيات الوباء العالمي الذي عطل الحياة الفنية وقوّض وسائل التواصل التقليدية بين المبدع والمستمع، أصدرت فيونا آبل منتصف العام المنصرم Fetch The Bolt Cutter (هات قطّاعة الأقفال).

صرخة في وجه الإقفال الذي عم سائر دول العالم، في جهدٍ من أجل احتواء تفشي فيروس كوفيد-19، ومن جهة أخرى، يقظة سياسية إزاء قضايا العدالة والتحرر، التي عادة ما تغيب عن كثير من الفنانين الذين يقضون شهوراً في كتابة وتلحين أغانٍ ومقطوعات داخل الأستوديو، وأمام شاشة الحاسوب، أو خلف البيانو، وشهوراً أخرى يمضونها في إتمام التسجيلات والجولات وإقامة الحفلات الداخلية والخارجية.

صرخة دوّى صداها في الأرجاء، ما حدا بالنقاد لأن يمنحوا الألبوم تقييماً تاماً (10/10)، لم يحدث منذ عقد من الزمن. قد جرى الإسراع في إصداره قبل شهرٍ من الموعد المحدد بتأثير الجو العام الضاغط بفعل كورونا، والمحرض على استجابة واسعة بإزاء رسالة حمالة أوجه، تبدأ في رغبة عارمة بكسر قيود العزلة، وتصل حدود الدعوة إلى تبنّي جملة من مواقف تضامن إنساني وسياسي. 

عديد تلك المواقف نسوي الطابع، يتكلّم عن آفة تسلط الذكور على الإناث، وإن جعلت فيونا من التسلط حالة اجتماعية تتجاوز الإطار النسوي الرائج، لتسقط الضوء على تسلط القوي وإذلال الضعيف، بغض النظر عن جنس أيّ منهما، وذلك بأسلوبها المعتاد، المعتمد استحضار ذكريات شخصية حيّة على شكل بوحٍ ذاتي بيوغرافي (سردٍ مذكرات شخصية).

إضاءة أخرى من منظور العدالة الاجتماعية على قضية سكان القارة الأصليين في ظل الأرقام المؤرقة، على الأقل بالنسبة للفنانة، والتي تشير إلى ارتفاع معدلات الإصابة بـ كوفيد-19 بين صفوفهم. من هنا، جرى إنتاج الألبوم مجازياً وبصورة رمزية متخيلة، كما يشير إقرارٌ مرفق أسفل صورة الغلاف الخلفية، على تراب أراض قبائل من السكان الأصليين لم يُتنازل عنها إلى المستوطن الأبيض حتى اليوم.    

فنيّاً، يعتبر الألبوم تمثيلاً لظاهرة الإنتاج المنزلي التي عمّت المرافق الفنية، بموجب حال الحجر الصحي والإقفال الذي شمل استوديوهات التسجيل والإنتاج. لئن ترمي فنانة كـ فيونا آبل بثقلها الإبداعي في ظاهرة طارئة ومُستحدثة؛ فإن النتيجة ستكون حتماً مزيداً من الابتكار.

لعل الأكثر تميّزاً، هو احتضان غضاضة هذا الإنتاج عوضاً عن إخفائها والاستثمار الواعي في عدم اكتماله. تعمد آبل إلى إدماج أصوات جرى تسجيلها في بيئة صوتية خارجية ممدّدة غير معزولة، كالتي توفرها الهواتف النقالة، مع أصوات أخرى أكثر كثافة، كالتي تؤمنها بيئة الاستوديو وتجهيزاته، مقدّمة بذلك الأصوات الخارجية الخام، كعواء كلب أو عزف بيانو في غرفة جلوس، مواد سمعية لها صيغها الجمالية الخاصة، تدخل في تراكيبها أصوات الهواء والفضاء وأثر الهدير الظاهر والمستتر. كأن بتلك الأصوات توق إلى الخارج الفسيح، إلى الحرية.

في ذات الوقت، وعبر صهر بيئة الاستوديو المعزولة بالبيئة المحيطة، تبدو فيونا كما لو أنها تتأمل جدلية الذات الحميمة والآخر القريب، الفرد المراقب والكوكب المضطرب الذي بات يتطلب حضوراً نشطاً وفعالاً أكثر من أي يوم مضى. فيونا آبل بـ "حساسيتها الراديكالية" على حد وصف كاتبة صحافية النيويوركر والناقدة إيميلي نوسباوم، تبحث لها عن دورٍ أكثر عضوية في هذا العالم، يهبط بها عن خشبة المسرح نحو رطوبة الأرض وصلابة رصيف الشارع.

دلالات
المساهمون