عمرو مصطفى... ليس ذكاءً اصطناعياً

21 يونيو 2023
اقتصر عمل مصطفى على البناء الشكلي للأسلوب التقليدي (فيسبوك)
+ الخط -

قد لا يشكل الذكاء الاصطناعي تهديداً للمستقبل البشري وحسب، بل للماضي أيضاً. فمن المتوقع لتلك التقنية إصدار السيمفونية العاشرة لبيتهوفن بنسخ مختلفة، أو رواية جديدة لكافكا. وعربياً، تفاجأنا أخيراً بأن الراحلة أم كلثوم تُغني لحناً جديداً لعمرو مصطفى.

أثار الملحن المصري أزمة حول استخدامه صوت أم كلثوم، عبر الذكاء الاصطناعي، لأداء أغنية من ألحانه بعنوان "وافتكرلك إيه"؛ إذ أظهرت التقنية بصمات صوتها مجردة بلا روح وبأداء بلاستيكي. لكن مصطفى نجح في أن يعود إلى دائرة الأضواء، بعد أن تضاءلت نجوميته كمُلحن في السنوات الأخيرة.

ويبدو أن نجاحه في جذب الأضواء إليه، دفعه إلى مرحلة التعامل مع الذكاء الاصطناعي بدلاً من الأصوات البشرية الحقيقية. ومن خلال حسابه على "فيسبوك"، أعلن في الثامن من يونيو/ حزيران الحالي أول مطرب في العالم عبر الذكاء الاصطناعي.


وكان المغني المصري أحمد سعد، قد علق ساخراً على منشوره: "أستاذ عمرو هتعمل مغني بالذكاء الاصطناعي ليه، هو احنا قصرنا معاك في حاجة؟"، ليرد عليه الملحن بأن يأخذ منه الأغنية التي ستعجبه ويغنيها.

لعلّ هذا الحوار يختصر طبيعة الأزمة التي يعيشها عمرو مصطفى مع صناعة الموسيقى. فبعد خفوت بريق ألحانه على صعيد الانتشار، لم يتوقف عن إثارة الأزمة تلو الأخرى، بدءاً من هجومه على بعض زملائه الفنانين، إلى ظاهرة الغناء عبر الذكاء الاصطناعي.

اللافت أن الأداء الآلي الذي حاكى صوت كوكب الشرق بدا بلاستيكياً لا روح فيه. وبعد ما أثاره العمل من جدل، قام الملحن بحذفه من على صفحته، ليعقبه نشر الأغنية بصوت الفنانة الشابة مي فاروق. والأخيرة اكتسبت شهرة من خلال أدائها أعمال أم كلثوم على مسرح الأوبرا.

وخلافاً لتباين الآراء في ما أقدم عليه صاحب لحن "يوم ورا يوم"، لم يخفِ جمهور واسع من استحسانه للحن، من دون أن يكتفي بوصف روعته أو انتمائه إلى الزمن الجميل، إنما أيضاً وجد أن طابعه العام مناسب للمقاييس الكلثومية. وهذا يعني أن هناك مسألتين: الأولى: نجاح عمرو مصطفى، عن قصد أو غير قصد، في اقتراح شكل ترويجي للحنه. والثاني: السطوة التي يمارسها الماضي على ذائقة الجمهور وتوجهاته، أي بما تمثله هالتها الراسخة.

على صعيد آخر، انهالت المدائح لعمرو مصطفى لاستعادته الفن الجميل بلحنه لأغنية "وافتكرلك إيه". اللافت أن الأغنية نفسها صدرت العام الماضي بعنوان مختلف، هو "ماضينا"، من غناء شيرين عبد الوهاب، من دون أن يحظى صاحب اللحن بذات المدائح. رغم أن شيرين تمتلك قاعدة جماهيرية وشهرة أوسع من مي فاروق، لكن ربط الأغنية بكوكب الشرق منحها ذلك الزخم، خصوصاً أن أداء فاروق كان أكثر قرباً للأسلوب الكلثومي مقارنة بشيرين. وبعيداً عن الأزمة التي أثارتها الأغنية بين المغنيتين، نتساءل عما إن كان لحن عمرو مصطفى يُلبي أقل متطلبات أم كلثوم الصوتية، أو أرشيفها الفني.

لعبت التقنيات في اختلاق مسحة تعيد للأذهان الغناء الكلاسيكي على المسرح، بوضع تصفيقات مُبرمجة عند قفلة المذهب. أيضاً، كان مدخل الأغنية المُرسل، "ماضينا بحلوه ومره،" محاولة لمحاكاة الطابع الكلثومي. وبالمجمل، اتخذ اللحن أساليب أغاني الستينيات والسبعينيات، على الأقل في أجوائها التعبيرية والشكلية، من دون أن يعني ذلك أنه نسخة مطابقة لتلك الفترة؛ فنرى اعتماده على الضرب الإيقاعي الذي يعود لتلك الفترة، إضافة إلى تنقلاته الإيقاعية.

يبدأ اللحن على مقام الكُرد بمدخل موسيقي وتقاسيم بسيطة مُرسلة، يعقبها غناء مُرسل. ثم يبدأ الغناء الموقع عند "قول" على إيقاع المقسوم، لينتقل في مطلع المذهب إلى إيقاع الوحدة، يتلوه الرومبا، ليختمه بالفوكس، ذي الميزان الثنائي. هذا التحول من الإيقاع الرباعي إلى الثنائي في خاتمة المذهب، لا يتسق مع الأسلوب اللحني المُتصاعد والمُمتد بقفلة تُحاكي وصلات الغناء الكلاسيكية، بمعنى أنه كان هذا التحول ينبغي أن يكون معبراً عن التحول من لحن أبطئ إلى آخر أكثر سرعة. في ذلك خرق لعُرف اتسمت به الأساليب اللحنية في تلك الفترة. وكان يمكن تبريره في وقتها، لكن في زمننا الحاضر، ينبغي أن يكون ملتزماً التقاليد الشائعة لتلك الفترة.

وبصورة عامة، حاول عمرو مصطفى أن يمارس شكلاً تقليدياً، لم تعد أغاني عصرنا تلتزمه، وهو اعتماد تنقلات مقامية أقل تعقيداً مما كان معروفاً في الماضي؛ فينتقل في لحن الغصن الثاني إلى مقام الحجاز. ويختم على مقام الكُرد في غناء المذهب.
خلافاً للشكل المقامي، فاللحن بصيغة عامة يتسم ببساطة، بمقدور مغنية ذات إمكانات صوتية عادية أداؤه، ما يعني أن الملحن، رغم استدعائه عنواناً ثقيلاً لربط لحنه بسيدة الغناء العربي، تعامل باستسهال مع الصيغة اللحنية. واقتصر عمله على البناء الشكلي للأسلوب التقليدي، خصوصاً في الجزء الأول من الغناء وصيغة المذهب. واعتمد جملاً لحنية سهلة، بينما في الغصن الثاني على مقام الحجاز، يختلط علينا ما إن كان لمغنية معاصرة، قدراتها الصوتية محدودة. 

وكان واضحاً أن الملحن لم يجهد نفسه بأي إجراء تعديلي للأغنية، في نسختها الأخيرة، وذلك ليقترب من العنوان الذي أخضعه للذكاء الاصطناعي وما أعقبه بعد ذلك. خلافاً إلى أن مؤديته مي فاروق قادرة على أداء فقرات غنائية أصعب من ذلك، وفقاً لتجربتها في أداء الأعمال الكلاسيكية.

لا يمكن أن نجرد فنان من حق التجربة المُتخيلة، في التلحين للسيدة أم كلثوم. لكن، لا بد من تلبية أقل متطلبات الغناء الشرقي الذي يعود إلى تلك الفترة. ومع أن الأغنية شهدت جملاً لحنية لطيفة، لكنها لا تتسم بأي بناء تركيبي لافت، أو بلحن مُبهر.

على صعيد آخر، سنرى أن مصطفى اعتمد في التوزيع الموسيقي على صيغة بسيطة، مستنداً إلى كمان واحد وتشيلو، بخلاف القانون والعود، والإيقاع؛ أي بصيغة التخت الشرقي التقليدي، لولا وجود التشيلو كآلة زائدة عنه.

وكان الأحرى به استخدام وتريات أوسع ليُضفي عليها مسحة الغناء المسرحي لذلك العصر. فما فعله لم يكن أكثر من استعارة سطحية لزمن آخر، من دون أن يسعى بتجربته للاكتمال أو النضج. وأخيراً، زادت انتقاداته لصناعة الأغنية في مصر، التي وصفها بأنها منهارة. ورداً عليه، قال الملحن والمغني تامر عاشور بأنه جزء من تلك الصناعة.

هل يسعى مصطفى بإعلانه تقديم مغنٍّ عربي عبر الذكاء الاصطناعي، لإنقاذ تلك الصناعة؟ أم أن الأمر ليس أكثر من أزمة يعيشها الملحن المصري، بعد أن فقد مكانته كأبرز ملحن لنجوم الغناء العربي. حتى إنه ذهب بعيداً، مؤكداً أن الذكاء الاصطناعي يُحرر المبدعين من القيود، وأنه بتلك التقنية سيقيم مسابقة بين نجوم الزمن الجميل، على حد تعبيره.

المساهمون