لا صوت يعلو في الأوساط الموسيقية فوق صوت الذكاء الاصطناعي. نقاشات عالمية ومحلية مستمرة حول اللاعب الجديد والقوي في صناعة الموسيقى، ما بين التخوف والتشاؤم من مستقبلها، وبين الآراء المتفائلة والمتحمسة للغاية، والتي لا تطيق انتظار تطور الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر في الفترة الحالية. ولكن، حتى الآن، لم يتطرق أحد إلى هذه القضية بشكل جدي وواقعي في الأوساط العربية، خصوصاً أن نتائج توغّل الذكاء الاصطناعي في الموسيقى لم تصل إلينا بدرجة واضحة بعد.
وكحال معظم التطورات التكنولوجية التي تصل إلينا بشكل مفاجئ، وتصبح واقعاً بعد فترة من التكهنات والاستغراب، فإن الذكاء الاصطناعي اقترب أيضاً من أن يصبح واقعاً في صناعة الموسيقى، لا مجال لإنكاره أو التقليل من تأثيره. وكحال التطورات السابقة على مدار صناعة الموسيقى، فإنها ستفرض واقعها رغم التأثيرات السلبية المحتملة على الوظائف والطرق التقليدية المتبعة في الصناعة. فمن اختراع الغرامافون إلى الميكروفون والقرص المضغوط، وصولاً إلى منصات الاستماع الرقمية، مرت صناعة الموسيقى بالعديد من النقلات التكنولوجية التي بدلت حالها وتاريخها، وانقرض معها العديد من الوظائف أيضاً. فكيف سيكون الحال هذه المرة مع الذكاء الاصطناعي؟
أثار الملحن المصري عمرو مصطفى مخاوف بعضهم بسبب رغبته في استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج أغان حديثة بأصوات مطربين راحلين. رغم إثارته ضجة من دون نتائج حقيقية، إلا أن ما فعله يشير إلى عدم استعدادنا وتقبلنا لوجود الذكاء الاصطناعي حتى الآن. يظهر ذلك في حالة الرعب والردود الانفعالية حول تجربة مصطفى، منها تصريحات علنية لعدد من المغنين، توضح عدم فهمهم الكامل لهذه التقنيات ودرجة تطورها المتسارعة، فتلمح إليسا إلى أنها مؤامرة غربية ستجعل الناس لا يفكرون ولا يبدعون، وأن هناك هدفاً خفياً من ورائها.
هكذا، سمعت أنغام صوتها على أغان منتجة بالذكاء الاصطناعي وتخوفت من فقدان وظيفتها في المستقبل، إذ ترى أن إحساسها لن يستطيع الذكاء الاصطناعي إنتاجه، وسخر حمزة نمرة منه ورأى أن الذكاء الاصطناعي لن يستطيع عيش معاناة المطربين، من البحث عن أفكار وألحان وكلمات وعمل توزيع وتنظيم عمل العازفين، وفي النهاية قد لا تعجب الأغنية الجمهور. ولا يعرف حمزة نمرة أن دور الذكاء الاصطناعي الواضح حتى الآن هو اختصار كل هذه المراحل والمعاناة من الأساس.
هناك آراء أخرى داخل الوسط الموسيقى ترى الأمر بطريقة مختلفة، ومنها المؤلف الموسيقي خالد الكمار، الذي تحدث إلى "العربي الجديد" عن دور الذكاء الاصطناعي المتصاعد في صناعة الموسيقى؛ إذ يشير إلى أنه بنظرة واسعة على تاريخ الموسيقى، سنرى أن هذا الفن مر برحلة تدريجية لكي تصبح الموسيقى "شخصية وخاصة جداً" أكثر من السابق، حينما كانت مقتصرة مثلاً على دور العبادة كالكنائس، أو في قصور النبلاء، إلى أوائل فترة عام 1800 ميلادية، مروراً بفترة صالات العرض واختراع الإسطوانات والكاسيت، واختراع سماعات الرأس التي جعلت الموسيقى أمراً شخصياً للغاية.
يرى خالد الكمار أن الموسيقى ستصبح نشاطاً شخصياً، لدرجة أن الذكاء الاصطناعي قد يخترع لك أغنية خاصة بك لا يسمعها غيرك في العالم، لأنه قادر على إنتاج كمية موسيقى لا نهائية وفق مزاجنا واختياراتنا. وبناء على تجاوبنا معها، سيخلق المزيد والمزيد منها. وضرب مؤلف موسيقى مسلسل "الهرشة السابقة" مثلاً بما تفعله منصات الاستماع الرقمية، مثل "سبوتيفاي"، التي تقترح عليك أغاني بناء على حالتك المزاجية.
يتوقع خالد الكمار أن الذكاء الاصطناعي سيغير مفهوم مهنة التأليف الموسيقي وجميع الوظائف الأخرى المتعلقة بالموسيقى بشكل جذري، مشيراً إلى أنه جرب التعامل مع الذكاء الاصطناعي في طريقة عمله، مثل طرح أسئلة فنية عامة على ChatGPT، وكانت ردوده دقيقة، ولكن في حال سؤاله بشكل تطبيقي وتفصيلي، مثل "كيف أجعل هذه الموسيقى أكثر حزناً؟"، تأتي ردوده غير دقيقة، ولكنه يتوقع أن يتطور في هذا الجانب أيضاً خلال الفترة المقبلة، خصوصاً بالمقارنة مع ما حدث في مجال التصميم والأعمال البصرية المنتجة بالذكاء الاصطناعي. كانت هذه الأعمال قبل عام لا تصلح للاستخدام العملي والاحترافي، ولكن الآن يرى من واقع عمله أن المشاريع التي تعرض عليه تكاد تكون جميعها معتمدة على الذكاء الاصطناعي.
في النهاية، يرى مؤلف موسيقى مسلسل "البحث عن علا" أن الذكاء الاصطناعي قادم لا محالة، وسيحتل وظائف كثيرين، مشبّهاً الأمر بالصناعات اليدوية في المنسوجات، التي يشتريها بعضهم لتفضيلهم إياها على منتجات المصانع، ولكن تبقى النسبة الطاغية من المنسوجات في العالم غير يدوية، وهو ما سيحدث في صناعة الموسيقى؛ إذ ستكون النسبة الطاغية من الموسيقى في العالم "بشراسة" من إنتاج الذكاء الاصطناعي.
ما يغيب عن كثيرين أن الذكاء الاصطناعي سيجعل العمل في صناعة الأغاني أكثر سرعة وسهولة، ما يعني المزيد من الابتكار والتطور في الأفكار، ومنها ما يشير إليه الملحن والموزع الشاب وجدي الفوي، الذي يوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هناك برامج في التوزيع الموسيقي تتيح له خلق أصوات والعزف بدلاً منه، وتقوم بعدة أدوار مساعدة له داخل الاستديو، مثل اقتراح إيقاعات وهارموني وآلات أخرى، ما يجعله ينجز عمله بسرعة أكبر، ويدخل اللحن فقط والخطوط العامة، ليحوّل الذكاء الاصطناعي أفكاره إلى مُنتَج، لدرجة أنه يتخيل صوت المطرب الذي يريد تنفيذ الأغنية معه، ما يجعله يطور أفكاره تجاه الأغنية.
يعتبر وجدي الفوي الذكاء الاصطناعي مساعداً ممتازاً له في العمل، إذ يوفر عليه كثيراً من الوقت والمجهود، خاصة في عمل نسخة تجريبية من الأغنية، لأنه في السابق كان يحتاج إلى تسجيل اللحن والأغنية، واستضافة العازفين لتسجيل موسيقى النسخ التجريبية للأغاني قبل عرضها على المطربين. ولكن النتائج، حتى الآن، لا ترتقي إلى المستوى الاحترافي أو المنتج النهائي، خاصة في الموسيقى العربية والأوركسترا، ولكنه فعال في الموسيقى الغربية والإلكترونية حتى الآن.
يقول وجدي الفوي إن الذكاء الاصطناعي فعال أيضاً في اختصار المسافات، لدرجة أنه من الممكن أن ينتج أربع أغنيات في اليوم بدلاً من واحدة، وفعال في تقنيات التسجيل وتعديل الصوت وغيرها من الإجراءات التقنية التفصيلية، وأكد أنه لا يتخوف من دخول الذكاء الاصطناعي وتأثيره على الوظائف، لأنه لا شيء يضاهي مستوى الموسيقى الحية، خاصة في الموسيقى والمقامات الشرقية والتوزيع الأوركسترالي، وأنه سيساعد الجميع على إنتاج الموسيقى بهذه الوسائل المساعدة.
يشعر كثيرون من صناع الموسيقى بالتفاؤل من الذكاء الاصطناعي، ومنهم الموزع ومهندس الصوت أحمد نادر، الذي يعمل في مجال التعليق الصوتي وموسيقى البرامج والإعلانات من خلال الاستديو الخاص به. ويقول لـ"العربي الجديد" إن الذكاء الاصطناعي يوفر أدوات داخل العمل ولا يستبدل وظائف، وإن تأثيره في الجانب التقني والمساعد للعمل فقط، لأنه لا يعوض الميزة في الفن المعتمد على التميز البشري والتعاون بين الأشخاص المختلفين.
ويرى نادر أنه من الصعب الاستغناء عن اللمسة البشرية في العمل الموسيقي، لأنه في السابق كانت هناك عدة برامج تتيح أصوات الآلات المختلفة من دون عازفين. وهناك العديد من المكتبات الموسيقية التي توفر قطعاً موسيقية من دون حقوق وبسعر رخيص، ولكن ذلك لم يوقف الطلب على العازفين والأعمال المصنوعة خصيصاً للأعمال المختلفة. ويضرب المثل بعدة نماذج، مثل احتياج الجمهور لشعور المطرب وإحساسه واختلاف أدائه في كل حفل له، كما أن الأعمال اليدوية ما زالت الأغلى سعراً لأنها تمتلك الجانب الشخصي المتعلق بالموهبة ومتعتها.
الجانب الأخلاقي والقانوني هو الجزء الجدلي حتى الآن في واقع الذكاء الاصطناعي، إذ تنحصر النقاشات حول من يملك حقوق الملكية الفكرية الرقمية للأعمال المنتجة من خلاله؟ لأن القوانين الحالية تحمي حقوق الأفكار البشرية فقط، إضافة إلى النقاشات حول حماية الأعمال البشرية نفسها التي يستلهم منها الذكاء الاصطناعي أفكاره وأعماله: هل سيحصل الفنانون على تعويضات من شركات الذكاء الاصطناعي؟ كيف ستدار النزاعات القانونية حول تشابه الأصوات والمقطوعات الموسيقية والألحان؟ هذه النزاعات، عادةً، تستغرق سنوات للبت بها، لوجود عناصر حكم مختلفة، منها الاقتباس والسرقة والتأثر وتوارد الأفكار والمحاكاة الساخرة. هل سيفهم الذكاء الاصطناعي هذه التفاصيل ويستطيع إطلاق أحكام فنية وأخلاقية دقيقة حول حقوق العمل الفني؟
الغريب أن الذكاء الاصطناعي كان له دور كبير في حفظ حقوق الملكية الفكرية للموسيقيين في السنوات الأخيرة، وتعتمد منصات البث الرقمي، مثل "يوتيوب"، على تقنيات الذكاء الاصطناعي من أجل التعرف بشكل سريع إلى المقاطع التي تستخدم مقاطع من دون حقوق، وكان له دور كبير في محاربة القرصنة، لذلك حتى الآن لا يبدو أن هناك شيئاً مثيراً للقلق أو يدعو إلى التشاؤم، بل قد يكون العكس تماماً، أي أن الذكاء الاصطناعي هو المنقذ الجديد للفنانين في الوقت الحالي.
دور الذكاء الاصطناعي حتى الآن لا يقتصر على الجانب التقني والفني والمساعدة في إنجاز المهام داخل صناعة الموسيقى، بل له دور أكثر تأثيراً في ارتباط الفنانين بالجمهور. هكذا، تساعد تقنيات الذكاء الاصطناعي الفنانين ومنصات البث الرقمي في تحليل بيانات المستمعين بشكل دقيق للغاية، ابتداء من عدد المستمعين وأعمارهم وجنسياتهم، إلى طريقة استماعهم للموسيقى وحالتهم المزاجية. ويجيب عن أسئلة معقدة وتفصيلية، من قبيل: هل يستمع المتلقي إلى الأغنية بتركيز أم بمصاحبة نشاط رياضي أو مع النوم؟ هل يكرر سماع الأغنية؟ ما النشاط الذي قام به بعد الاستماع إلى الأغنية؟ وغيرها من التفاصيل التي قد تجعل مهمة المغني أكثر سهولة في معرفة جمهوره أكثر مما يعرفونه عن أنفسهم.