ما من مشهد أكثر إذلالاً، وإمعاناً في معاقبة الفلسطينيين في قطاع غزة جماعياً، يتجاوز مشهد المساعدات الأميركيّة التي تلقي بها الطائرات في بحر غزة، ليتراكض "الجميع" نحوها في سبيل وجبة تسد رمق المحاصرين الواقفين على أبواب المجاعة. الولايات المتحدة نفسها التي أرسلت عشرة آلاف طن من الصواريخ لإسرائيل، وألقت فوق غزة ما لا يتجاوز حمولة شاحنتين من المساعدات التي كانت تدخل القطاع المحاصر.
السماء ذاتها، تلك التي تحرسها المسيّرات والرادارات والطائرات الإسرائيلية التي تقصف منازل القطاع فوق ساكنيها، المتأملين الآن بأعين جائعة لقمة ما، تغيرت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 ولو لساعات، إلى مساحة استغلتها كتائب القسام لتهبط بالمظلات أيضاً، و"تعبر" الحدود نحو الأراضي المحتلة. السماء حينها، في صورة لن تنسى لأجيال قادمة، تغيرت السيادة العسكريّة عليها، وتحولت من أشد مساحة آمنة لا تطاولها المقاومة "نظرياً"، إلى حاجز بسيط يمكن اجتيازه بدراجة مجنّحة.
إلقاء المساعدات بهذه الصورة، ربما كان محاولة لإعادة السيطرة على السماء، ودفع الفلسطينيين في غزة إلى محو صورة ما حدث في السابع من أكتوبر، لتذكيرهم ربما بأن السماء هذه ليست إلا للصواريخ ومحاولات الولايات المتحدة وأوروبا وبعض الدول العربية تبييض صورتها بعد "مجزرة الطحين". لكن، يدرك الغزيون الآن أن السماء لا تحمل فقط الموت والذلّ، بل ملامح من فخر ما، استمرّ لساعات قليلة.
المفارقة الأشد، أن السماء لا يمكن ضبطها كمساحة للاشتباك، الأمر الذي تحاول إسرائيل التغلب عليه بقوة الطائرة والصواريخ، في حين أن الفلسطينيين في قطاع غزة (ولو كان الوصف هنا شعرياً) ليس لهم سوى الريح، تلك التي تحمل المقاتلين فوق جدران الفصل العنصري. وهنا نكتشف "مسرحية" المساعدات، حسب تعبير جانتي سوريبتو، رئيسة منظمة إنقاذ الطفولة: ليست الريح فقط من تحمل الصناديق، بل الإصرار على رميها في البحر، هكذا من دون أن يتلقاها أحد سوى الجائعين.
تبدو عملية إلقاء المساعدات بهذا الشكل (علماً أنه يمكن ببساطة السماح للشاحنات الدخول من معبر رفح) محاولةً للانتقام، والتأكيد أن السماء بمعناها الطبيعي لا تقف إلى جانب الغزيين، ولا حتى الفلسطينيين خارج القطاع، أو أي أحد كان ينتظر من كتائب القسام شيئاً. لكن، من الصعب نسيان صورة المقاتلين يهبطون من السماء، مهما أمعنت إسرائيل في الإذلال، ليبدو الانتقام هنا عقاباً جماعياً، وهي التهمة التي وجهت إلى إسرائيل منذ السابع من أكتوبر، ثم أصبحت إبادة جماعية. وهنا نفكر: لماذا عقاب الجميع؟ ليس فقط الغزيين، بل كل متعاطف مع الحق الفلسطيني. يمكن القول إن السماء في تلك اللحظات أصبحت مفتوحة على المجهول، تميل إلى صاحب العزم لا الحديد.
لا يغيب عن أحد أن إلقاء المساعدات بهذا الشكل يمثّل جزءاً من خطة إسرائيل لكسر العزيمة الغزيّة. وهذا بالضبط جزء من سياسة تطلق عليها إسرائيل "ضرب القاعدة الشعبية للمقاومة". فلا أحد على الأرض مدرّب على استقبال هكذا نوع من "المساعدة"، ناهيك عن أنها محاولة لدفع الغزيين نحو السردية الإسرائيلية التي تقول إن حماس هي سبب "كل" ما يحصل. حماس ذاتها التي سمحت بدخول المساعدات الطبية للأسرى، هل هي من تمنع دخول الشاحنات إلى القطاع؟ لا، لكن التركيز على مصادرة السماء حتى من مخيلة الغزيين هو الهدف.
لكن، هذه المخيلة لا يمكن القضاء عليها أو تشويهها. يكتب الأكاديمي رفعت العرعير في نصه "إذا كان لا بدّ أن أموت"، عن طفل يتأمل سماء غزّة "ويظنّ للحظة أن هناك ملاكاً". هذا الطفل ذاته، مهما كان، ما زال يحلم بملاك في سماء غزة، لن تقتله الطائرات ولا المسيّرات؛ لأنه في النهاية، السماء مُلك لمن يحلم بها، ليس لمن يخاف منها.