اكتسحت الصور عالية الجودة الشاشات. لم يعد سهلاً علينا أن نتقبل الدقة المنخفضة، أو تلك الصور التي تظهر فيها الـPixels بشكل واضح، خصوصاً إن كانت متحركة. لكن هذا لا يعني أنها تلاشت، بل تحولت إلى شكل من أشكال التواصل، كالـ Memes، والإيموجي، خصوصاً أن الجميع حالياً، أًصبح قادراً على إنتاج الـ GIF الخاصة به، أو كما يُترجم بعضهم المصطلح إلى العربية، "نسق الرسومات المتبادلة" (Graphics Interchange Format)، التقنية التي رحل مخترعها ستيف ويلهايت (Steve Wilhite) عن عالمنا، متأثراً بإصابته بفيروس كورونا.
استخدمت تقنية الصور هذه، لأول مرة عام 1987، وانتشرت بعدها في عالم "الشبكة العنكبوتية العالميّة"، وأدخلها "فيسبوك" ضمن نظامه عام 2015، و"إنستغرام" عام 2018، ناهيك عن دخولها معاجم اللغة الإنكليزية عام 2012.
لن نخوض أكثر في التاريخ التقنيّ لهذا النوع من الصور، بل في المعاني الثقافية والجمالية لاستخدامها، محاولين الالتزام بوصية ستيف ويلهايت الذي قال إنها تلفظ بـ J، وليست بـ G، الأمر الذي أكد عليه بعد سنوات حين استلم جائزة إنجاز العمر عام 2013.
الصور المتحركة هذه لا تراهن على تدفق الزمن، بل على حبسه ضمن حلقة ضيقة، دورة قد يصل طولها إلى عدة ثوان، تحاول التقاط Geste ما؛ إذ تختزل الحركة إلى الحد الكافي لإظهارها من دون التركيز على انسيابها في الزمن. أشبه بتلك التي كنا نراها قبل اختراع السينما، الحركة القائمة على تتابع الـ Frames، بشكل يخلق الانطباع بالحركة، وليس توثيقاً للحركة نفسها، كأن نرى قطة تقع من على الكنبة، أو شخصاً يصفع آخر، أو تلويحة باليد، كلها تختزل في ثلاث أو أربع حركات كافية لخلق الانطباع بالحركة.
هناك ما هو لافت في أسلوب "اختزال" الحركة الذي يمارس عند تصميم الـGIF، خصوصاً حين تتناول الصورة موقفاً كوميدياً؛ أحد ما يسقط، أو ركلة غير موفقة، أو قطة تغمز بعينها؛ فاختيار الحركات قائم على أساس الحفاظ على "الكوميديا"، أي تلك الحركات القليلة التي تشكل الموقف المضحك. وهنا، نحن أمام تجربة جمالية فريدة، فعملية الاختزال تراهن على التكوينات والمعاني التي يختزلها الجسم المتحرك، و"تأليفها" بأسلوب قادر على نفي كل ما يهدد الموقف الكوميدي، واختزاله إلى بضع حركات "جوهرية" بالمعنى الفلسفي، قادرة على خلق الأثر المطلوب.
هناك شكل آخر ايضاً يرتبط بما هو خارج الإطار، أي الحركات التي تحيل إلى السياق الأصلي، ليس ذاك الذي نراه أمامنا، وأشهرها مثلاً الصورة التي تتناول حيرة جون ترافولتا التي لا تحيل فقط إلى فيلم "بالب فيكشن" Pulp Fiction، وطبيعة الأحداث فيه التي احتارت فيها شخصية ترافولتا، بل إلى كل موقف تظهر فيه الدهشة المفرطة مع محاولة من تعرض لها الحفاظ على توازنه. بمعنى أن الصورة، هنا، تتكئ على ترافولتا لتنقل لنا تجربة عاطفية-عقلية، لا يمكن للكلمات نفسها رصدها، بل لا بد من حركة.
وهنا تظهر العلاقة بيننا وبين تدفق الزمن، والوضعيات التي يمكن أن نشغلها ضمنه، تلك التي يمكن اختزالها بشخص يتلفت يميناً ويساراً لينقل لنا معنى "الحيرة"، ليس فقط عبر حركات الجسد، بل عبر استعادة تاريخ الثقافة الشعبية نفسه، وما تلقيناه من صور. الأمر أشبه بأسلوب لرصد المفارقة أو الإضحاك، بأقل قدر ممكن من الحركات والكلمات، ضمن دورة، تستعيد "كلّ" الحيرة، لا مجرد تلك التي اختبرناها أو اختبرها ترافولتا.
الجدير بالذكر أن أول صورة GIF كانت لطائرة تحلق، وهنا لدينا حذلقة تاريخيّة؛ إذ ترافقت صور القطار وحركته مع اختراع السينما، وكأن القطار اختزل المسافات، والسينما كتقنية وثقت لذلك، وثقت بصورة دقيقة لتدفق الزمن ونحن فيه.
أما الـGIF، فتبنت الطائرة الحديثة، تلك التي تعبر المسافات من دون سكة، تحلق أينما تريد، كالإنترنت نفسه، لا يوجد حد للمساحات التي يمكن له أن يصل إليها، فلا حدود أمامه، كصورة الطائرة نفسها، تتكرر إلى ما لا نهاية، تحلق دوماً، من دون أن تحط.