عاد إلى واجهة الاهتمام ما "فجّره" الباحث السوري عمار يوسف من دمشق بقوله إن نسبة السوريين الذين يعتاشون على الحوالات الخارجية تناهز 70%، بعد حديث الباحث باسل علي عن "قيود فرضتها الحكومة السورية"، سواء عبر إغلاق 12 شركة صرافة كانت تساهم بضخ الدولارات إلى السوق و"يعمل معظمها اليوم بشكل غير شرعي"، أو "استمرار فرض سعر دولار التحويل أقل من سعر السوق".
وسعر الحوالات الرسمي 2500 ليرة للدولار، في حين أن سعر الدولار بالسوق تعدى 3500 ليرة.
ويعتبر الاقتصادي باسل علي، خلال اتصال من دمشق مع "العربي الجديد"، أن التضييق الرسمي لا يخدم "اقتصاد البلد ولا حتى دعم سعر الصرف"، بل على العكس، لأن "دول الجوار (تركيا، لبنان والأردن) تستفيد من التحويلات الدولارية الخارجية للسوريين، وتحول بالليرة السورية، أو يتم العمل غير المنظم، فيذهب الدولار واليورو إلى شركات تعمل بالسر وبشكل شخصي، ومن المستحيل إيقافها أو محاصرتها جميعها"، فـ"الازدحام على الشركات المرخصة شديد، وينتظر المحوّل لهم ساعات طويلة ليحصلوا على المبلغ، ولكن بالليرة السورية وبالسعر الرسمي"، على حد قوله.
ولكن علي يلفت إلى أن التجار والصناعيين يستلمون تحويلاتهم بالعملات الأجنبية، رغم أن ذلك مخالف للمرسوم التشريعي الذي أصدره رئيس النظام بشار الأسد في 18 يناير/ كانون الثاني 2020، والقاضي بالحبس 7 سنوات وغرامة مالية بمقدار ضعف قيمة المدفوعات لأي نوع من أنواع التداول التجاري أو التسديدات النقدية، وسواء كان ذلك بالقطع الأجنبية أو المعادن الثمينة.
وكان الاقتصادي السوري عمار يوسف قد أكد، خلال تصريحات أخيراً، أن عدد السوريين الذين يعيشون على الحوالات الخارجية، في ظل صعوبة العيش وتردي الأوضاع الاقتصادية في سورية، وصلت إلى 70%، مبيناً أن الحوالات "ليست بمبالغ ضخمة"، مقدراً متوسط قيمة الحوالة الواحدة بمئتي يورو بالحد الأقصى، ومجموع الحوالات الخارجية التي تدخل سورية يومياً بنحو 5 ملايين دولار.
وينبه يوسف إلى أن الفرق بين سعر صرف الدولار الحكومي وسعره بالسوق السوداء يصل إلى حوالي 20%، و"هذه النسبة يعتبرها المواطن أنها من حقه، وأن أكثر الدول التي يتم استلام حوالات منها هي ألمانيا والسويد وهولندا وتركيا والعراق والإمارات".
وبحسب مصادر سورية متقاطعة، تشكل التحويلات الخارجية، إضافة للأوراق الرسمية التي تصدرها سفارات نظام الأسد بالخارج، المورد الدولاري الأهم لحكومة النظام السوري، بعد تراجع موارد الخزينة الأساسية (الصادرات، الضرائب وفوائض المؤسسات الحكومية)، إذ تصل عائدات جوازات سفر المغتربين، بحسب تصريح سابق لوزير الداخلية بحكومة الأسد محمد رحمون، إلى أكثر من 21.5 مليون دولار سنويا، كما تزيد التحويلات الخارجية السنوية من المغتربين السوريين إلى داخل البلاد عن 1.8 مليار دولار.
ويقول الخبير المالي السوري إبراهيم محمد، لـ"العربي الجديد"، إنه لا توجد أرقام دقيقة عن حجم التحويلات الخارجية إلى سورية، نظراً للتحويل غير الرسمي وتكتم حكومة الأسد عن حجم المبالغ المحولة، لكن أقل التقديرات تشير إلى 1.6 مليار دولار، تزيد خلال بعض الأشهر، كشهر رمضان، وخلال المناسبات والأعياد.
واعتبر إبراهيم محمد أن تحويلات المغتربين السوريين تشكل "أهم دعائم زيادة مداخيل الأسر السورية" بواقع التفاوت الكبير بين الدخل، الذي لا يزيد عن 72 ألف ليرة، وإنفاق الأسرة الذي يزيد عن 1.2 مليون ليرة شهرياً، و"تساهم التحويلات بمواجهة الفقر الذي يزيد عن 90%".
وحول دور التحويلات الخارجية بدعم سعر صرف الليرة وزيادة الاحتياطي الأجنبي، يقول المتخصص السوري: "من المعلوم، بعد نشر البنك الدولي منذ عام 2016 تراجع الاحتياطي الأجنبي بالمصرف المركزي من نحو 20 مليار دولار عام 2011 إلى 700 مليون دولار، أن نظام الأسد بدد الاحتياطي كاملاً على الحرب والسلاح واستيراد المشتقات النفطية والقمح، لذا لا يمكن اعتبار التحويلات الخارجية رافداً للاحتياطي النقدي بالمصرف المركزي، لأنها تصرف بالأسواق، ولا تسد احتياجات الاستيراد، سواء مواد أولية ومنتجات للقطاع الخاص، أو قمحا ونفطا بالنسبة للنظام، لكنها تساهم بدور مهم بتوازن نسبي بالعرض والطلب الدولاري بالسوق، بل تكاد تكون المورد الوحيد الذي يُدخل قطعاً أجنبياً إلى السوق السورية".
وتوقع محمد أن تتزايد تحويلات المغتربين السوريين وحتى المساعدات الدولية، بالتوازي مع زيادة الفقر واحتياجات السوريين، فـ"القيود المفروضة، سواء من داخل سورية عبر ملاحقة شركات الصرافة أو التسعير الجائر للدولار، أو الخارجية التي تضيّق على السوريين المغتربين، خاصة بدول الخليج العربي، لن توقف الأبناء والأقارب من رفد أهلهم بالداخل بأسباب استمرار العيش".
كما رأى أن شركات التحويل غير الرسمية، عبر أشخاص وشركات غير مرخصة، كفيلة بإيصال المساعدات والالتفاف على القوانين العالمية، بما فيها تلك التي تستند إلى مكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، لأن المبالغ صغيرة، ولا يتم إرسالها عبر المصارف أو الشركات العالمية، مثل "ويسترن يونيون".
وتذهب التوقعات العالمية بعودة التحويلات السنوية للدول الفقيرة بعد تراجع وباء كورونا، إذ وصلت تدفقات التحويلات السنوية المسجلة رسمياً إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، بحسب البنك الدولي، نحو 529 مليار دولار في عام 2018، بزيادة 9.6% عن المستوى القياسي السابق البالغ 483 مليار دولار في 2017.
وفي حين زادت التوقعات خلال عام 2019 بنمو التحويلات إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل إلى 550 مليار دولار، لتصبح أكبر مصدر لها للتمويل الخارجي، تراجعت التحويلات خلال عامي كورونا، لتعاود التوقعات الآن، بعد الانفتاح الدولي وعودة العمل، إلى الارتفاع من جديد.
ويشير استشاري التطوير الإداري عبد الناصر الجاسم إلى أن "تحويلات السوريين مرشحة للزيادة اليوم" بعد عودة أعمال السوريين بالمغتربات، والذين تجاوزوا 7 ملايين سوري بفعل التهجير والهرب من الموت، لكن التحويلات من أوروبا شبه ثابتة، "لأن الأبناء المغتربين يحولون لذويهم مبالغ بسيطة من المساعدات التي يتلقونها ببلدان مهاجرهم".
ويقول الجاسم، لـ"العربي الجديد"، إن تحويلات السوريين الخارجية تكتسب أهمية خاصة في أوقات الأزمات، فهي تشكل المصدر الرئيس لدخل المواطنين، حيث تدعم قدرتهم على التكيف مع ظروف معيشتهم الصعبة، والسوريون يعيشون هذه الأزمة منذ حوالي 10 سنوات.
وأشار إلى أن الأزمة المالية اللبنانية منذ عام 2019 وتعطّل الحياة الاقتصادية في لبنان بعد انفجار بيروت أوجدا صعوبة جديدة أمام تحويل السوريين أموالًا إلى ذويهم داخل مناطق سيطرة النظام.
ونظراً لـ"الأهمية القصوى لدور التحويلات في معيشة السوريين وردم بعض الفجوة بين الدخل والإنفاق وتأمين أساسيات الحياة، ونظراً لما لهذه الحوالات من دور اجتماعي يتمثل في تعزيز الترابط والتعاون بين المكونات المجتمعية"، اعتبر الجاسم أنه "لا بد من استجابة إنسانية دولية، عبر منظمات العمل الإنساني الدولي وتحت رقابة حقيقية، لحماية هذه المبالغ الصغيرة من التشبيح المالي، ومن جشع سماسرة الحوالات والتلاعب بأسعار صرفها، فهي كل ما تبقى للسوريين المفقرين بالداخل ليستمروا على قيد الحياة".