كان 2022 عام الهروب إلى الذهب في مصر بامتياز، بحثاً عن ملاذ آمن من انهيار الجنيه وتآكل قيمة المدخرات ليس لدى الطبقات المتوسطة وما فوقها فحسب، وإنما أيضا ممن لديهم مبالغ زهيدة يدّخرونها خوفا مما يخفيه المستقبل.
بيد أن اطمئنان الكثيرين بشراء المعدن النفيس الذي شهد قفزات في الأسعار لارتباطه بصعود قياسي لسعر الدولار، لا سيما في السوق السوداء، قد تحول إلى كابوس جماعي، وبات كل واحد في الأيام الأخيرة يتفحص ما اشتراه من مصوغات فقد تكون مغشوشة، بعد تقارير أمنية تكشف عن حالات كثيرة لضبط ذهب مغشوش، وكذلك تحذير مسؤولين في قطاع "الصاغة" من انتشار هذه الممارسات في الفترة الماضية.
وشهدت أسواق الذهب اضطراباً شديداً في الأسابيع الأخيرة، ترجمتها طفرات سعرية جنونية خلال الأيام الأولى من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وسط اندفاع الكثيرين من أصحاب المدخرات للشراء، لكنها عادت للهبوط مع نهاية الشهر وحلول يناير/كانون الثاني الجاري مع تراجع سعر الدولار في السوق السوداء.
وأدى تذبذب الطلب إلى انخفاض أسعار البيع من متوسط سعر 1750 جنيهاً للغرام "عيار 21" الأكثر شعبية الشهر الماضي، إلى 1650 جنيهاً حالياً.
وساعد على انخفاض الأسعار انتشار حملات أمنية على كبار تجار الصاغة بالقاهرة، مع تلميحات بوجود ذهب مغشوش في الأسواق مع تجميع تجار غير معروفين السبائك و"الذهب الكسر" لإعادة تصديره إلى الخارج، واستلام قيمتها عبر شبكات لتهريب الدولارات بعيداً عن القنوات الرسمية.
وأطلقت مصلحة الدمغة والموازين المكلفة بالرقابة على دمغ الذهب وجودته ومعايرته، حملة على محلات البيع في العاصمة القاهرة ومختلف المحافظات، أدت إلى إثارة حالة من البلبلة لدى المواطنين الذين ربطوا بين انخفاض الأسعار والملاحقات الأمنية للتجار والموزعين، ما أثار الشك لدى كثيرين منهم في صحة ما لديهم من مشتريات حصلوا عليها خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
وعممت دار الموازين منشورات عن الدمغة الإلكترونية الجديدة التي تضعها على الذهب، لمنع التلاعب في المشغولات والمعايير المطبقة في مصر وهي 24 و21 و18 و14 الذي بدأ العمل به في السنوات الأخيرة. بينما أصدرت شعبة الذهب تطمينات للمستهلكين عبر مواقعها الرسمية، تؤكد رقابة الدولة على جميع عمليات تداول وتصنيع وبيع الذهب، مبينة أن الأسعار في السوق تخضع للعرض والطلب، وأن ما شهدته الأسواق من تصاعد كبير في سعر الذهب يرجع إلى وجود حالة غير عادية من الطلب على شراء السبائك والجنيه الذهب للاحتفاظ بها كوعاء ادخاري في ظل تراجع الجنيه أمام العملات الصعبة.
ووصف تجار ذهب ما تردد عن تزييف الذهب والتلاعب في صناعته بأنها حملة ممنهجة مقصودة من قبل بعض الجهات لمنع الناس من الإقبال على الشراء في ظل سيطرة عدد محدود من التجار على شراء كميات كبيرة، ما أدى إلى ارتفاع سعر الغرام "عيار 21" إلى 1920 جنيها منتصف الشهر الماضي، بعد أن كان عند 1300 مطلع الشهر ذاته.
قال موزع ذهب شهير في مدينة الجيزة غرب القاهرة، فضل عدم ذكر اسمه في تصريح لـ"العربي الجديد" إن "المستهلك المصري لا يشتري الذهب كصاغة عادة إلا من التاجر الذي يعرفه وتعامل معه لسنوات، لذلك تندر حالات الغش وإن وجدت من الدخلاء على المهنة يكتشف أمرهم بسهولة من قبل التجار والموزعين الذين يتواصلون على مدار الساعة لتبادل الأسعار والصفقات والمعاملات".
وأضاف أن "سوق الدهب محدود العدد والقيمة في ظل سيطرة عائلات على الصناعة ومنع الدولة استيراده أو تصديره إلا عبر الطرق الرسمية وتعاملات البنك المركزي، بالإضافة إلى وقف استيراده العام الماضي، مع فرض قيود الاستيراد من البنك المركزي".
وأشار إلى أن الطلب على الذهب القديم المعروف بـ"الكسر" زاد في الفترة الأخيرة، إذ يمكن التصرف به دون خسارة قيمة الصنعة وضريبة الدمغة، بينما السبائك تكون بضامنة الأختام الرسمية. واشترى المصريون نحو 27.9 طناً العام الماضي بزيادة تبلغ نسبتها 39% عن عام 2021، وفق بيانات مجلس الذهب العالمي.
وإلى جانب مشتريات الأفراد للذهب، تشير إحصائيات المجلس العالمي للذهب إلى ارتفاع مشتريات البنوك المركزية للمعدن الأصفر بنسبة 115%، في الربع الثالث من العام الحالي مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، لتقترب من 400 طن، مسجلة أعلى عمليات شراء ربع سنوي في آخر 22 عاماً.
وتأتي المخاوف المتصاعدة من انتشار الذهب المغشوش، لتزيد من حيرة المصريين الباحثين عن ملاذات آمنة لأموالهم، إذ تعد مصر الأكثر عرضة لأزمة تراجع العملة المحلية على مدار الـ 12 شهرا القادمة، وفقا لمقياس بنك الاستثمار الياباني "نومورا".
ولا يرى الكثير من المصريين بارقة أمل في انفراج خلال الأمد القريب، ولا سيما مع تعقّد المشهد الجيوسياسي عالمياً، على خلفية الحرب الروسية في أوكرانيا المستمرة منذ نهاية فبراير/ شباط الماضي، والعقوبات الغربية المتلاحقة ضد موسكو، وبقاء جذوة التضخم، الأمر الذي يشير إلى استمرار تداعيات هذا الوضع على الاقتصاد المصري العليل.
وفي مقابل إصرار تجار ذهب على صعوبة حدوث غش في تعاملات المعدن النفيس، أقر مسؤولون في شعبة الذهب وتصنيع المعادن الثمينة باتحاد الصناعات المصرية بوجود سوق موازية للذهب (سوداء) لا سيما عبر مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي زاد الإقبال عليها في الفترة الأخيرة، محذرة من التعامل معها.
والاحتفاظ بالذهب مدفوع بثقافة شعبية ودوافع دينية أيضا لدى الكثيرين الذين يعزفون عن وضع مدخراتهم في البنوك ويشترون الذهب كوعاء للقيمة، لا يتخلصون منه إلا عند الضرورة القصوى منها حالات الزواج وشراء العقارات.
ورفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة على الودائع الشهر الماضي بنسبة 3% دفعة واحدة، لتصل في المتوسط إلى 17.25% وأصدرت البنوك شهادات إيداع جديد بفائدة تصل إلى 20% لتشجيع المواطنين على الاحتفاظ بالجنيه ورفع الضغط الشديد على طلب الدولار والذهب اللذين تحولا إلى سلع ثمينة ووعاء ادخار للقيمة والثروة.