ستانلي كوبريك: سينما الكوابيس والمعرفة

27 يوليو 2015
+ الخط -

ربّما لأنه كان لديه موقف تجاه كل شيء في حياته، لم يُخرج ستانلي كوبريك (1928-1999) سوى 13 فيلماً روائياً على مدى 50 عاماً قضاها في العمل المتواصل، فأفلامه نتاج بحث طويل ممزوج بكوابيسه وكتابة يومياته، وساعات مضاعفة من التصوير بسبب تجريبه الدائم، لدرجة يمكن القول إن أعماله كانت صدمة معرفية مرتبطة بإيقاع عصرنا؛ صدمة تتضمّن الجنس والعنف والتكنولوجيا.

قُدّمت خلطة كوبريك بلا إثارة مبتذلة، حتى أنها لم تستهو منتجي هوليوود دائماً، فكان يفرّ منهم غاضباً نحو لندن، بل إنه أنفق على بعض أفلامه من جيبه الخاص، واشترى حقوق روايات ووثائق ليوظفها في مشاريعه، ورغم ذلك كلّه "لم يكن خاسراً" بلغة السوق، إذ حصد عشرات الجوائز وملايين الدولارات من فيلمه الثالث "القتل"، ولم يبلغ الثلاثين بعد.

شغفه بالشطرنج وموهبته في التصوير الفوتوغرافي قاداه إلى فهم صراع الدراما/الحياة من أدق تفاصيله إلى صورته الكلية، وتفكيكه بطريقة معكوسة أيضاً، وإلى ربط الجزء والكل بالزمن، فلا يمكن أن يتطوّر الشر عند الإنسان، أو يكبر فينا الرعب، أو أن نتوق للحرية المطلقة ونتمرّد على واقعنا حد تغييره، إذا غيّبنا حساب الدقائق والساعات.

منذ "سبارتاكوس" في عام 1960، اتضحت معالم رؤيته السينمائية والفكرية، رغم التجاهل الذي لحق به بوصفه الصانع الأول للفيلم، فقد استحوذ بطل العمل كيرك دوغلاس، نجم تلك المرحلة، على الأضواء.

لم يلتفت أحد إلى أن اشتغالات المخرج طغت على صورة الممثل، وعلى النصّ الذي قدّمه كاتب السيناريو دالتون ترومبو عن رواية تحمل الاسم نفسه لهوارد فاست. فهو لم يكن صرخة في وجه أميركا "المكارثية"، حينها، كما أشار بعض النقاد، فقد كان كوبريك يبحث في عمق علاقة الإنسان بقدره، الذي يصنع منه بطلاً، ثم يهزمه لأن الناس لم يمتلكوا إرادة التغيير.

حين نستعيد كوبريك، في ذكرى مولده التي حلّت أمس، يبدو "سبارتاكوس" لحظة استثنائية -في حياة إنسان قرّر أن يصبح مُخرجاً ليقلّل من الرداءة المنتشرة على حد زعمه- فبينما كان السوق والإعلام ونقاده يكرّسون دوغلاس أسطورة، وقتئذ، بالكاد كان يتذكّره تاريخ الفن السابع، ليس فقط لأن نجوميّته انطفأت، إنما لأن المخرج أسّس لسينما جديدة تجعل الخيالي قريباً جداً وواقعياً كذلك.

400 يوم من العمل المتواصل لإنتاج فيلمه الأخير "عيون مغلقة باتساع" عام 1999، لكن نوبة قلبية حالت دون مشاهدته افتتاح فيلمه ومواصلة حياته، ليترك لجمهوره متعة مكثفة تتعلق بالصورة وتجسيد شخصياته، وربما احتاج المرء دراسة مفصّلة عن رصد كوبريك لتحوّلات الانفعال البشري المتناقضة والمفاجئة والسريعة في آن. كيف يمكن أن يتحوّل الحزن إلى رغبة جنسية أو صلة الخوف بتحفيز شهوتنا المخبأة.

يضاف هذا الفيلم إلى أعمال سابقة تميّزت باستشرافها وحدوسها، سواء سبرت عالم الخيال العلمي في "أوديسا الفضاء: 2001"، أو العلاقات العاطفية في "لوليتا"، أو الحرب في "سترة معدنية واقية" وغيرها، لكن السؤال ظل قائماً حول "يهودية" كوبريك وحلمه بإخراج فيلم مأخوذ عن رواية "المحرقة" للكاتب لويس بيغلي.

ولد ستانلي كوبريك لأبوين علمانيين، وتزوج ثلاث مرات في حياته خارج الطقوس اليهودية، ولم يكن يعلم كثير من جمهوره بحقيقة تعاطفاته حول ديانته، لكن الغموض بقي يلف حياة الرجل "الذي يمتلك موقفاً تجله كل شيء"، كما يقول المقربون منه، مع إشارات كثيرة حول شغفه بإنتاج فيلم يروي معاناة اليهود في أوروبا، خاصة أنه كان فتى يافعاً إبان الحرب العالمية الثانية.

تضاربت الآراء حول مشروع كوبريك "المؤجل" عن المحرقة، بين من رآه أحد أسراره التي لم يكف عن التفكير بإمكانية تقديمها للسينما، وبين من اعتبره اهتماماً عابراً انزاح نحو أعمال لاحقة له، وبين من عزاه إلى اغترابات اليهودي في الغرب.

اغترابات تضاف إلى بحثه القلق في الصورة؛ من المخيّلة إلى الواقع وبالعكس، فلم يستطع أحد أن يساومه على أفكاره، بمجرد أن يسقط على وجهه مرة واحدةً، كما تمنّى البعض، فرغم تعثره في أكثر من مرة، لم ينفذ كوبريك فكرة غير مقتنعٍ بها.

دلالات
المساهمون