في مثل هذا اليوم من عام 1885 وُلد الشاعر الأميركي وأحدُ أبرز أصوات القرن العشرين، عزرا باوند. وغداً تحل الذكرى الخمسون لرحيله عام 1972. هنا ترجمة لاثنتين من قصائده.
العودة
انظرْ، ها هم يعودون، آه
انظرْ لحركاتهم المُرتابة، وأقدامهم المُتلكّئة
لاضطراب المشيةِ
وتردُّدها الحائر.
انظرْ، ها هم يعودون، الواحد تلو الآخر،
بخشيةٍ، كنصف واعٍ:
كما لو أنّ على الثلجِ أن يتمهّل
ويُغمغم في الريح،
ويعود نصفهُ أدراجه،
إنها "المجنّحةُ بالرهبةِ" المقدّسة.
آلهة النعلِ المجنّح!
ترافقها كلاب صيدها الفضيّة، تتشمّمُ أثرَ الهواء!
إليّ! إليّ!
إنهم الأسرع في المُباغتة،
ذوو الرائحة النفّاذة،
إنهم أرواح الدم.
بُطءٌ في الرسنِ،
ورجال الرسنِ شاحبون!
■■■
البحّار
هل لي، من أجلِ أُغنية ذاتي عن الحقيقة،
أن أحصر لغوَ الرحلةِ
وكيف أنّي في الأيام الشاقّة
كثيراً ما تحمّلت الضنى.
في الأسى المريرِ مَكثتُ
وفي ثوران البحر الرهيب،
قضيتُ ساعة حراستي المُنهِكة قرب قيدوم السفينة
حيث تتقاذفها الجروف.
ألمُ البرد بقدميّ وخدّرهما الصقيع
جليدية هي قيود التنهيدات المنخدشة
التي تمضغُ قلبي بجوعٍ وتُخلّف مزاجاً مُرهَقاً.
كي لا يعرف الإنسان أنّ الحياة على اليابسةِ هي الأحبّ،
كي لا يعرف كيف أنّي، أنا البائس، نجوتُ من الشتاء على البحرِ الجليدي،
تعيساً منفيّاً، مسلوبَ الأقاربِ،
معلّقاً مع ندفِ الثلجِ الصلِدة، حيث ينهال رذاذ البردِ،
وحيث لا أسمع سوى البحر الجامح والموج المُجمَّد
وصرخات البجع أحياناً،
فضجيج طير الأطيش صار لَهوي،
وصخب طيور البحر صار لي ضحكاً،
وكلّ غناء النوارس خمرتي.
دُقّت العاصفة فوق جرفِ الصخور،
وهَوَت على مؤخّرةِ السفينة بريشٍ ثلجيّ؛
فكثيراً ما صرخَ النسرُ برذاذٍ فوق جناحه.
مع ذلك، تقرعُ الآن فكرةٌ على القلب
تضعني فوق فيوضٍ شاهقةٍ،
"إنّي أعبرُ اللجّة المتموّجةَ بالملحِ وحيداً".
الأنين هو شهوة ذهني التي أرومُ دوماً،
ومذّلك أبحثُ عن مقرٍّ غريب.
ما من امرئٍ نبيلٍ على وجه البسيطة،
حتّى لو أنّهُ يقدّمُ خيراً،
يظلُّ لديه جشعُ الشباب،
فلا خيره مع الشجاع، ولا حكمته مع المُخلِّص
سيخلّصانه من أساه على السفر البحريّ،
مهما شاء سيّده.
لا ميلَ لقلبهِ للعزفِ، ولا لاقتناء الخواتم
ولا انجذابَ لزوجةٍ، ولا للذّة الدنيا،
ولا أيّ مثقال ذرّةٍ آخر غير جُرحِ موجةٍ،
ومع ذلك شوقٌ يستبدُّ به ليتجوّل فوق المياه.
الغابةُ تزهرُ، كاشفةً جمال العُلّيق
والحقول البهيّة، والأرض التي تُسافرُ بخفّةٍ،
في هذا كلّه تهميدٌ لطبع المرء المتهوّر،
إذ ينقلبُ القلب نحو الترحال ليُفكّر
بتلك الدروب الغارقة التي هجرها.
يصدحُ الوقواق ببكاءٍ موحِش،
يُغنّي صيفاً، مجسِّداً الأسى ومرارة دمِ القلب
وابن الوطن لا يُدرك - وهو المُنعّم -
ما يُنجزه البعضُ، وإلام يقودهم الترحال
ولكنّ قلبي انفجر من قفصهِ الآن،
ومِزاجي وسط العباب، فوق مسار الحوت،
بجموحٍ يتجوّل.
وعلى ظلال الأرض يأتي إليّ،
الطيرُ الباكي وحيداً، بتوقٍ وتأهّب،
يشحذُ إذعان القلب لمسار الحوت،
وعلى دروبِ المحيط،
أرى على أيّ حالٍ، أن ربّي حتّم عليّ هذه الحياة الميّتة،
في الحلِّ والترحال،
يقيني أنّه ما من رفاهٍ دنيويٍّ أبديّ،
إلّا إذا فاجعةٌ ألمّت به،
إذ تُضاعف سيل المرء،
ما إن ينتهي.
يجتثُّ الداء أو الكِبرُ أو الكرهُ القاتل
نفسَ الجسدِ المحكومِ بالهلاك،
ولذلك، فلأجل الذين تحدّثوا بعد تمجيد العيش
على كلّ سيّدٍ أن يتباهىٰ بكلمةٍ أخيرة:
أنه سيسعىٰ قبل أن يعبرَ،
ومن عدوّهِ الحقود
يحرّرُ الأرض الجميلة
بأعمالٍ شجاعة،
ليبجّلهُ كل البشر بعدئذٍ،
ويبقى مجده تاريخاً، بعد رحيلهم
دائماً وأبداً، نفحة حياةٍ أبديّة
غبطةً في قلبِ الباسل.
الأيامُ هشّة، وكلُّ غطرسةِ الغنى الدنيويّة
لا تصنعُ ملوكاً أو قياصرة،
أو مانحي ذهباً، كالذين رحلوا،
ومع ذلك ما زال يتعاظمُ نشوةً
ذاك الذي يعيش حياةً منعّمة.
موحِشةٌ هذهِ الفضيلة، وبهجةٌ هشّة!
الساعةُ تتلاشى، لكنّ العالم يصمد
القبرُ يُخفي العناء، والنصلُ قريب
والمجدُ الدنيويّ يشيخُ ويحترقُ.
ما من امرئٍ رام مُجاراة سير الأرض،
ولم يقف العُمرُ ضدّه،
فيشحبُ وجهه، ويتأوّه بشعرٍ رماديّ،
عارفاً برحيلِ رفاقه النبلاء الذين وُهبوا للتراب،
ولن يُلحف عندئذٍ ما أكلتهُ الحياة من جسده،
ولن يذوق الحلو، أو يعتريه الأسف،
لا رعشة في اليد، لا فكرة في الخاطر.
ورغم أنّه أهال على القبرِ ذهباً،
فإنّ أجساد أشقّائهِ المدفونة،
لن تكون لهُ كنزاً.
* ترجمة عن الإنكليزية: رزان الحُسيني