محمد عبد الهادي أبو ريدة.. الفلسفة في اتّساعها

20 أكتوبر 2022
محمد عبد الهادي أبو ريدة في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

قبل أن تزدهر قراءة التراث الإسلامي التي أجراها حسين مروّة (1912 - 1987)، ومحمّد عابد الجابري (1937 - 2013)، وحسن حنفي (1944 - 2019) وغيرهم، كان المجال الفلسفي العربي أرضًا بِكرًا، اقتصرت دراستُه على بعض المستشرقين مثل كوربان (1912 - 1077) ودي بور (1888 - 1957) وماسينيون (1883 - 1962). إلا أنّهم كانوا يَعتبرونها مقتصرةً على شروح كتب أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. ولا يرون لها أيّة أصالة تُذكر، وقد يصل بهم الأمر إلى إخراجها من التفكير الفلسفي تمامًا، لأنّها، في نظرهم، لا تتوافق مع معايير التأمّل النقدي.

تغيّرت الأمور حين بَرز في هذا القطاع الذي احتكره الاستشراق بعضُ المفكّرين العَرب، فأماطوا اللثام عن الإسهام العربيّ في حقل الفلسفة، مثل عبد الرحمن بدوي (1919 - 2004) وزكي محمود (1918 - 1989) ومحمد عبد الهادي أبو ريدة (1909 - 1991) الذي سنركّز عليه في هذا المقال. فقد بنى عمله، طيلة خمسة عقودٍ، على تصوّر منفتح للفلسفة، دَرس من خلاله نصوصًا تناولت وجود الإنسان والطبيعة واللاهوت، فضلاً عن قضايا ثقافيّة معاصرة.

من جهةٍ أولى، توسّع الباحث المصري في دراسة علم الكلام باعتباره نظرًا في الذات الإلهيّة وصِفاتِها وفي كينونة الإنسان وحرّيته ومسؤوليّته وفي أصل الكون. وفي هذا الإطار، يتنزّل عملُه عن إبراهيم بن سيار النظّام (760 - 835) وآرائه الكلامية والفلسفية (1960) والذي حلّل فيه مواقفه من الإلهيّات والمعرفة والوجود والأخلاق والسياسة واتصال هذه الآراء جميعها ببيئة النَظّام العراقية وما شهدته من نقاشات بين المعتزلة والأشاعرة وغيرها من الفرق الإسلامية، ليستنتج أنّ هذا المتكلّم أسّس نسقًا متكاملًا يضاهي ما وصل إليه فلاسفة الثقافات الأُخرى، ولم يكن- كما يدّعيه الاستشراق- متأثّرًا بمقولات الإغريق.

أبرزَ أصالة الفلسفة الإسلامية وربطها ببيئاتها الأصلية

ومن جهة ثانية، بحث أبو ريدة في نصوص التصوّف ونظريّاته من خلال آثار ابن عربي (1240 - 1165) والسهروردي (1154 - 1191) والغزالي (954 - 1111)، معتبرًا أنّ هذا اللون من التأمّل في الروح ومقاماتها ومراتب المعرفة عملٌ إسلامي أصيل، لا داعي إلى ربطه بتأثيراتٍ هندية أو مسيحية أو يونانية مفترَضة، وغالبًا ما تكون متعسّفة. ويعود الانشغال بنصوص التصوّف إلى الدكتوراه (جامعة "بازل"- سويسرا 1945) حول رُدود الغزالي على الفلسفة اليونانية ونقضه إيّاها، وذلك بالعودة إلى كُتب هذا المفكّر، ولاسيّما "تهافت الفلاسفة" و"إحياء علوم الدين"، واستعراض البراهين المستعمَلة لدحض بعض مبادئ الإلهيّات. وقد عالج التصوّفَ بوصفه "غنوصًا" وطريقًا في المعرفة الحدسية، يقابل المعرفة المنطقية.

كما درس، في أعماله في الفلسفة الإسلامية المحضة، مؤلّفات ابن سينا وابن رشد والفارابي، وانصبّت جهودُه على بيان أصالة أفكارهم وتجرّدها من التأثير الهلّيني وإبداعها لأجوبة خاصّة في تبايُنٍ عن المصادر النقلية والفلسفات الأجنبية.

أتاح تضلُّع أبو ريدة من هذه الحقول المعرفيّة الثلاثة تحقيق نصوصها تحقيقًا علميًّا والكشف عن بعضها للمرّة الأولى وتحرير مقدّمات تُبرز أصالتها وارتباطها ببيئاتها السياسية والثقافية الأصلية (العراق والشام وفارس والأندلس)، قطعًا مع منهج المستشرقين الذين دأبوا على الربط الآلي بين كلّ تفكير حرّ والمصادر الأجنبية.

فقد اشتهر أبو ريدة بتحقيق "رسائل الكندي في علوم الطبيعة"، وفيها تحليلاتٌ تُعدّ من بدايات التفسير العقلي للظواهر الطبيعية، إلى جانب كتاب "تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل" للباقلاّني (1947)، و"ديوان الأصول" للنيسابوري (1969)، وغيرها ممّا يندرج في مسار التدليل على أنّ هذه الأعمال وما فيها من نقاشات هي من صميم الفكر الفلسفي الإسلامي.

تاريخ الفلسفة في الإسلام - القسم الثقافي

كما أنجز أبو ريدة ترجمات للنصوص الفلسفية والحضارية المهمّة، مثل "تاريخ الفلسفة في الإسلام" (1938) للمستشرق الهولندي دي بور (1866 - 1942)، الذي حصر فيه أهمّ التيّارات والمدارس الفلسفية المتعاقبة على أرض الإسلام، و"الحضارة الإسلامية في القرن الرابع" (1940) لآدم ميتز (1888 - 1944).

كما ترجم "مذهب الذرّة عند المسلمين" (1946) للمستشرق شلومو بينس (1908 - 1990)، وفيه عرض إلى آراء المتكلّمين حول قضية الجزء الذي لا يتجزّأ، باعتباره الأصل المفترَض للعالَم، وقد راحت فيه أقوالهم إلى مذاهبَ عدّة شديدة التعقيد والتجريد، وكتاب "وجهة الإسلام" (1933) لهاملتون غيب و"تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام" (1958) للمستشرق الألماني فلهاوزن (1844 - 1918).

يؤكّد هذا العرض السريع لترجماته إسهامه المصطلحي الكبير، لأنّ نقل هذا الحقل المعرفي يقتضي إتقان المفاهيم الأصلية الواردة في هذه الكتب وتوليد المصطلحات المقابلة لها. وقد أغنى أبو ريدة المَكنَزَ المُصطلحيّ الفلسفي بالعديد من المفردات الجديدة التي سادت بعده، وهو ما يُعَدّ تطويرًا للضاد المُعاصرة وتمكينًا لها حتى تخوض مغامرة الحداثة.

وأمّا الأبحاث المُؤلَّفة ابتداءً، فهي تجذّرٌ في روح العصر وتساؤل عن القضايا الوليدة التي تَعصف بالوعي في تجاذباته مع متغيّرات التاريخ. ففي "الفلسفة الإسلامية وبعض قضايا الفلسفة" (2011) استعرض مراحل تيّار "التنوير" إبّان عصر النهضة، ابتداءً من الأفغاني وعبده وعبد الرازق، وكلّهم دعوا إلى تحديث الرؤى الدينيّة وعَقْلَنتها، حتّى يكون الإسلام المرجع الرئيس في إخراج العقل العربي-الإسلامي من ربقة التقليد، بعيدًا عن الاقتباس والتغريب اللذيْن أبانا عن فشلهما.

عالج التصوّف بوصفه طريقًا يقابل المعرفة المنطقية

وفي كتابه: "الأنا والآخر" عالج هذا المفكّر تعقّد العلاقات التي انعقدت، ماضيًا وراهنًا، بين الإسلام كحضارةٍ والآخر المُغاير، مؤكّدًا أنّ هذه العلاقات لم تكن قائمة على التوتّر والإقصاء ضرورةً، بل على التكامل والتحاور، لأنّ الهوية الإسلامية استوعبت السنَن الثقافية السابقة والمعاصرة التي تنتمي إليها الجماعات الاثنية والدينية المتعايشة في حظيرة الإسلام. وفي مبحث "الإسلام والحضارة"، تطرّق أبو ريدة إلى مواقف الدين الإسلامي من مفهومَي الثقافة (culture) والحضارة civilisation))، حيث يقترنُ المُصطلح الأول بالإنتاج الفكريّ عمومًا، في حين يدلّ الثاني على الجوانب المادّية، جريًا على اصطلاح اجترحته الأنثروبولوجيا الحديثة. وعليه، كانت حضارة الإسلام، في نظره، مزجًا بين البُعدَيْن: الروحي والمادّي لتلبية حاجات الجسد والروح معًا. كما خصّص الكاتب بحثًا رابعًا لمعضلات الأخلاق والسياسة التي تتّصل بوجود الإنسان ضمن النسيج المجتمعي دارسًا نتائج الأولى على الضمير، وآثار السياسة على العلاقات الخارجية الناظمة لأفراد الكيان الواحد.

هل هذه المَسيرة الحافلة مجرّد تحقيق لنُصوصٍ تراثيّة من الثقافة العربيّة- الإسلاميّة، ولا صلةَ لها بالتأمّلات الذهنية وبالقول الفلسفي؟ في الحقيقة، يتجاوز مجموع هذه الأعمال منطقَ التحقيق والنشر والترجمة ويَرقى إلى مستوى إحداث شرخٍ في الخطاب الإبستيمولوجي المهتمّ بالتأريخ للعلوم والفلسفات.

أعاد أبو ريدة كتابة تاريخ الفلسفة في الإسلام ضمن خطّية المعارف الكونية، مُخرجًا إياها من الإزراء الاستشراقي الذي حصرها في شروح لأعمال "المُعلّمين" الإغريق وجعلها مجرّد تابع لها. كما صحّحَ مراحل هذا التاريخ مضيفًا إليها الحَلَقة المنقوصة، حلقةَ المفكّرين المسلمين الذين لم يكن لهم مكان في التواريخ العامّة للفلسفة، مثل تاريخ الهولندي جون بور (1998): "التاريخ العام للفلسفة والفلاسفة"، بالرغم من دورهم الكبير في نقل التراث الإغريقي إلى العالم طيلة القرون الوسطى وفي نقده وتجاوزه. وبإعادة كتابة التاريخ هذه يردّ الاعتبار إلى ما حبّره العرب من نظريّات، ويُبرهن على أنها "تُكوّن في حدّ ذاتها فلسفة لها خصائصها"، ناقدًا بذلك آراء المستشرقين وتعسّفَهم في ربط مواقف المسلمين بمصادر أجنبيّة.

إلا أنّه، وفي وقوفه موقفَ الدفاع عن أصالة التفكير الفلسفي العربي وشمولية الآراء فيه، ما جعله يبدو، أحيانًا، ملتصقًا بهذا التراث، غير متّخذٍ منه مسافةً نقدية كافية، حتى أدّى به الأمر إلى تبرير التناقضات البنيوية التي سادت لدى بعض الكتّاب القدامى وإلى تغليب مواقفه الإيمانية التي كانت متعاليةً أصلًا بسبب انقطاعها عن المجتمع المصري والعربي في القرن العشرين.

قارَب محمد عبد الهادي أبو ريدة كلّ قضايا الفكر الفلسفي دون عقدة نَقص ولا تضخيم من خلال خطابٍ متوازن معتدلٍ، جعلَ منه مفكّرا متسامحًا وَهَبَ إنتاجه الفكريّ لتحقيق التواؤم بين العقل والوحي واللاهوت والناسوت، من أجل إظهار التكامل بينهما في خطاب حديث، لا يتنكّر لهويّته الدينية، به يجابه الانسان العصري معضلات الحداثة مع الاستعانة بما جاء في التراث من تعاليم أخلاقية وروحية، تُيسّر التعامل مع الحضارة المادية التي سادت منذ قيام الثورات الصناعية الكبرى، كما أنه أخرجَ للقارئ النصوص الفلسفية العربية دون عُقَدٍ وأظهرها على ما هي عليه، بحدودها وتناقضاتها، بموضوعاتها ومَحاورها المخصوصة، مؤكّدًا أنّها لا تقلّ أصالةً عن نظيراتها الأوروبية المعاصرة ولا الإغريقية الكلاسيكية.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون