روديغر سافرانسكي في "أن تكون فرداً": فنُّ إدارة المسافات

27 يوليو 2024
يعرض السياقات التاريخية لشعور الفرد بنفسه
+ الخط -
اظهر الملخص
- **استكشاف الفردية**: كتاب "أن تكون فرداً: تحدٍّ فلسفي" للفيلسوف روديغر سافرانسكي، يستعرض أشكال الفردية عبر العصور، من عصر النهضة إلى الوجودية، مع تحليل لأفكار فلاسفة مثل كيركيغارد وروسو وسارتر وهايدغر.

- **الفردية عبر العصور**: يناقش الكتاب كيفية تحقيق الفردية من خلال الفن، الدين، العقل، والعزلة، مع استعراض لمواقف فلاسفة مثل دافنشي، لوثر، مونتاي، روسو، ديدرو، كيركيغارد، وثورو.

- **الفردية ووسائل التواصل الاجتماعي**: يربط الكتاب بين الفردية في العصر الحديث وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن هذه الوسائل تُخضع الفرد لآليات قديمة بلباس عصري، مما يزيد من ضغط التنافس ويُلغي المسافات بين الأفراد.

"أن تكون فرداً: تحدٍّ فلسفي" كتابٌ جديد للفيلسوف الألماني روديغر سافرانسكي (1945)، تصدر ترجمته العربية عن "دار فواصل" بترجمة عصام سليمان، وهو بحثٌ في أشكال الفردية، وتبويب لما هو مشترك بينها. يخطر للقارئ أنّ الكتاب عن تحقيق الذات. لكنّ الخلاصة التي يعرضها تقود إلى إدراك مختلف؛ وهو نأي الفرد بنفسه عن الآخرين، وكأنّما الفردية هي الحيّز الذي يشغله الفرد وسط الجماعة. إنّها فنّ إدارة المسافات.

أُسوةً بسائر كتب سافرانسكي، يخوض القارئ رحلة ممتعة وغنية، تساعده على إدراك ذاته. والكتاب، كما تَذكر المقدّمة، ليس حكاية متّصلة للفردية موزّعة بين ستّة عشر فصلاً، إنّما هو إجابة عمّا يسمّيه سافرانسكي "الكوارث الجمعية للقرن العشرين". إجابةٌ يصوغها من سياقات تاريخية تمتدّ من عصر النهضة إلى الوجودية، انتهاءً بتفسير الفردية في وسائل التواصل الاجتماعي. وبمعونة كتيبة من الفلاسفة من أمثال؛ كيركيغارد وروسو وسارتر وهايدغر، وسواهم الكثير.

في عصر النهضة، اعتبر ليوناردو دافنشي بعض أفراد جنسه أشخاصاً لا يتركون أثراً سوى ملء المراحيض. اعتداده بنفسه كان اعتداد الفنّان. والفردية كما قدّمها كانت الأثر الذي يتركه الفنّان، الأثر الذي يُكتب له الخلود، ويصنع فرديته. كما صنع مارتن لوثر اعتباره الفردي وهو ينشد علاقة شخصية مع الربّ، ورأى أنّ على المرء إنجاز الإيمان بقواه الداخلية، عبر الاستبطان، أي أنّ عليه أن ينجزه بشخصه، بوصفه فرداً، إذ كانت دعوته قائمة على غفران يأتي من الداخل، لا من الكنيسة. أيضاً وجد مونتاي أنّ على المرء العودة إلى ذاته، والخروج عن القطيع، إلا أنّ مقصده كان مختلفاً عن دافنشي ولوثر؛ فقد ردّ شعور الطمأنينة إلى العقل، لا إلى الفنّ أو العلاقة مع الربّ.

تُقدّم وسائل التواصل حيّزاً غير مسبوق لاستعراض الأنا

في أوج شهرة جان جاك روسو، اعتبر نفسه معزولاً، وكان يشعر بأنّه أكثر سعادة عندما يختلي بنفسه. حتّى أنَّه كان يكتب لنفسه، ويقرأ لنفسه. ولم يدرس إلّا ما اعتبرها مشكلات شخصية، ورأى سبب تعاسة المرء في التناقض الذي تصنعه البرجوازية داخله؛ فالإنسان، بحسب روسو، طيّبٌ بطبيعته، إلّا أنّ المؤسّسات هي ما تجعله رديئاً. على النقيض منه، رأى ديدرو السعادة المكتسبة من الإحالة إلى الذات، ومن الحفاظ عليها واحدة، أمراً واهماً؛ فالإنسان، وفقه، ذاتٌ فارغة، الحقائق لا توجد في أعماقها، إنَّما توجد داخل "اللعبة الاجتماعية". 

وقد أتى ستندال بنظرياته من موقع بينهما؛ إذ رأى أنّ المرء حتى يستطيع التأثير في نفسه عليه ألّا يعرف ذاته الفعلية، أي أنّ الذات ليست ما نصل إليه، إنَّما هي ما نصنعه خلال رحلتنا. وقد تعامل كلٌّ من كيركيغارد وشتيرنر وثورو بصورة أوضح مع الأوجه المختلفة للتحوّل البرجوازي؛ إذ أدرك كيركيغارد أنّ "موت الإله" وضمور قيمة الإنسان في العالم البرجوازي أمران قادمان، ووعيه للفرد كان صرخة ضدّ التكيّف مع التحوّل البرجوازي. كما حاول شتيرنر ألّا تستولي القيم البرجوازية عليه. كذلك ثورو، راهن على إمكانية أن يربح المرء معركة مع البرجوازية عبر التخلّي. رأى أن الفرد يدرك نفسه باللجوء إلى الطبيعة، وعارض التقسيم الذي أنجزته البرجوازية للإنسان وفقاً لضرورات العيش.

روديغر سافرانسكي - القسم الثقافي
روديغر سافرانسكي في "البيت البلجيكي" بمدينة كولونيا الألمانية، تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 (Getty)

أُسوةً بروسو، اعتبرت ريكاردا هوخ، عندما كانت سيّدة أوروبا الأُولى، أنّ على المرء أن يتبع "عفريته الداخلي"، ولم تؤخذ بالشهرة التي كانت تشوّش عليها حالة الصفاء مع ذاتها. أيضاً لم تر الفردية مقتصرة على اللحاق بالشغف، وهو الأدب بالنسبة إليها، وإنَّما في العلاقة مع الرجُل، وبحسب هوخ، فإنّ جريمة المرأة هي الحُبّ الذي تهبه للرجل، وعليها الاعتماد على نفسها، والحفاظ على الاستقلالية حتى في الإخلاص لحُبّ الرجل، وهو بعدٌ جديد لكتاب سافرانسكي مرتبط بالقدْر الذي نهب فيه أنفسنا للآخر، بالقدر الذي نتيح لأنفسنا أن تذوب في الآخر. وكأنَّما هوخ تقول، أحبب، لكن بقسط. رؤيةٌ تتناغم مع فكرة سارتر بأنّ أغلى ما في الحب هي استقلالية المحبوب. لكنّ حُبّ حنة أرندت لهايدغر كان حُبّاً مختلفاً. إذ اعتبرت العالَم بين المحبِّين عالماً محترقاً، المسافة بينهما غير موجودة، وقد قادها إلى هذا القول خضوع هايدغر لها، وإخلاصها لحبّه. 

يصوغ إجاباته ضمن سياق تاريخي بدءاً من عصر النهضة إلى اليوم

صحيح أنّ الكتاب يعرض السياقات التاريخية لشعور الفرد بنفسه. لكنّه يصل بقارئه إلى خلاصات مرتبطة بواقعه اليوم، خاصّة في وسائل التواصل الاجتماعي التي أخضعت الفرد إلى عدد من الآليات التي كانت موجودة في السابق، لكنّها ارتدت صورة العصر. وعلى هذا النحو، فإنّ كتاب غوستاف لوبون "علم نفس الجماهير" الذي طبّق موسوليني مبادئه للتأثير على الجماهير، يناسب اليوم سلوكَ المؤثّرين على وسائل التواصل الحديثة، الذين يبحثون دائماً عن مقلّدين، عن أتباع، عن جمهور يمارسون عليه دوراً قيادياً. يجمع سافرانسكي أيضاً الإحالة إلى الذات مع الفلسفة الوجودية، إلى تجربة أن يكون المرء مرتبطاً بالآخرين في وسائل التواصل الاجتماعي؛ أمرٌ يدفع الفرد إلى تأكيد ذاته، ويدفعه لأن يكون ظاهراً لنفسه. حتَّى أنّ وسائل التواصل تُقدّم حيّزاً غير مسبوق لاستعراض الأنا، وهي وفق تعبير سافرانسكي "مسارح لعروض ذاتية فردية". الأفراد فيها، يبحثون عن أحد يصفّق لهم، مدفوعين بضغط التنافس، خصوصاً أنّ وسائل التواصل تلغي المسافات، العالَم كلٌّ واحدٌ متزامن، ومقاييس المقارنة تعمل كلّ الوقت، تتطوّر وتتعقّد باستمرار. 

من الصعوبة الإحاطة بكل جوانب الكتاب. لكنّي أخال الخلاصة التي نحتاج إليها، وسط ضغط وسائل التواصل الاجتماعي، أنَّه في الوقت الذي يرجو فيه الفرد الشعور بقيمة ذاته، يصبح من الصعوبة يوماً بعد يوم أن يعرف حقيقة ذاته، وأن يلتقط ما يشغله من الداخل بالفعل، وأن ينساق إلى إلهامه الشخصي. ببساطة لأنّ الفرد صار مشمولاً دائماً بما يعرضه الآخرون عن أنفسهم، ويكاد يُطحن تحت قوى المقارنة. وكأنّما لتعرف نفسك، عليك أن تبتعد، وأن تترك مسافة عن الآخرين أكثر من أيّ وقت مضى في عهود البشرية. 


* روائي من سورية

المساهمون