لا شيء تقريبًا

01 مايو 2023
عبد اللطيف اللعبي (تصوير: سيريل شوباس)
+ الخط -

نحو الضفّة الأُخرى

أعرفُ أين يُفْضي
هذا الطّريق المَرْسوم
باليَدِ الفولاذيّة
المَغْمور
في مَصْهَرِ الظّلمات
أعرف ما تَعْنيه هذه الجُدْران
من ماءٍ مُتجمّدٍ وطين
وهذا الفراغ الموْزون
والملْموس
وهذا الصّوت الآفِل
الهارب من السّراب
وهذا الهواء
الّذي بالكاد نتَنفَّسُهُ
وهذه الآلام
الّتي تشْحذُ شراستها
على ظاهر الجسد
وباطِنه
أعرفُ
إلى أين يجرفُني الموج الأبْكم
أتخَيّلُ أرْصِفَةَ
الضّفّة الأخرى
حيث اللّيلُ
لم يَعُد يُفرِزُ النّهار
وحيث العيونُ
مفتوحةً كانت أم لا
تَكُفُّ عن الرُّؤية


■ ■ ■
 

حالاتُ انْقِراض

دُلْفينُ الغانْج
فَهْدُ فْلوريدا
نَمِرُ البَنْغال
أَنْقَليس أوروبّا
سَرَطان جوز الهند
الضّفدع البَهْلوان
الأسروع الفِرْعَوْنيّ
الصّقر المُلْتَحي
سلحفاة النّهر الطّائرة
بُطْرُسِيُّ غالاباغوس
فصائل حيوانيَّة كلّها
في طريق الانقراض
هلّا أضيفُ
في ما يتَّصل بالنَّوع البشريّ
الكتابةَ بِاليَدِ
البوحَ بالحُبّ
القُبْلةَ على الجبين
إعلانَ الرّغبات الأخيرة
سكوتَ المَدافِع
العِطرَ الطّبيعيَّ للوردة والمرأة
الاحتفاءَ بالخَمْر
صلاةَ الفجر الدّينيّةَ والوثنيّةَ
التّأدُّبَ
لطائفَ الإشارة
الاستنشاقَ والاستِقْصاءَ والجَسَّ
والمُبارَكةَ
وتحريكَ اللِّسان سَبْع مرّات داخل الفم
"التَّنَهُّداتِ الطويلةَ لِكَمنْجات الخريف"  
قولَ بيرينيس لتيتوس
"في شهر، في سنة كيف سيكون عذابُنا؟" 
الأسماءَ المئةَ
للسَّيْفِ والجَمَل
في اللّغة العربيّة
المًعجمَ اللّذيذ
لخريطة "الرّقّة"
في اللّغة الفرنسيّة
غضبَ المقهورين الكبيرَ
ليس لنَيْلِ فُتاتٍ إضافيٍّ
ولكن لِلْقَضاءِ
على فظاعات القهر كلِّها
وحتّى تَكْتَمِلَ القائمة
أُضيفُ الشِّعْرَ
مَسْموعًا ومَفْهومًا
وقابلًا للتّبليغ
الشّعرَ الّذي يُنْبِضُ القلب
كما لرؤية الحبيبة وافدةً
لأوَّل مَوْعِدٍ
والعمرُ في مستهلِّ السّابعة عشرة.


■ ■ ■


دُعاء

عَسى
أن يُصادِفكَ طفلٌ في الطريق
فَيُسْبِغ عَلَيْك
ابتسامةً فصيحة
امرأةٌ
غير مُدْرِكَة لِبَهائها
تُلقِّنُك
وهي عابرة
قصيدة عِطْرِها
صديقٌ
مات منذ سنين
يبزغ في النّاصية
ويرتمي بين أحضانك
عصفورٌ
من فصيلةٍ بادَتْ
يَحُطّ على شبّاك نافذتك
ويشرع في الحديث
كما في الحكايات المدرسيّة
الياسمينُ
الّذي أقْلقكَ
خلال الشّتاء
يتفتّق ولو عن زهرة
هذا الصّباح
عَسى
أن لا تَحُلّ أيّ كارثة
ما بين بداية حلم اليقظة هذا
والنّهاية
الّتي يؤول إليها
فتكون قد انتَصَرْتَ
ولو بقِسْطٍ صغيرٍ
على حياتك
موْقوفَة التّنفيذ.


■ ■ ■


شعور بالذّنْب

كُلَّما همَّت ضحيَّةٌ
أيًّا كانت
بالكلام
لتَعْرِض
عَذابَها
أشْعُرُ بالذَّنْب. 


■ ■ ■


أَشْرِعَةُ الطّفولة

الطّفولة تدْنُو
وتنْأى
الخيْمرُ
أكْبُرُهُ قامةً
مِشْيتُه تُحاكي مِشْيتي
وصوْتُه يُذَكِّرُني
بصوْت السّجين الّذي كُنْتُهُ
وحيدًا في الزّنزانة
مطرٌ... مطر...
شمسٌ... شمس...
المَرْكَب يغادر الرّصيف
شراعٌ أسود، شراعٌ أبيض
لا دموع
لا استِسْلام
دَوّامةٌ من غضب
تنبعث من الأعماق
الإعصارُ يتهيّأ
يا لَلمَرْكبِ المسكين!
الطّفولةُ تَدْنو
وتَنْأى. 


■ ■ ■


وحْدَتي

أكتشفُ الوحدة
لا، لا
ليس العادية
الّتي أُشبِعَتْ تمْحيصًا
وذُرِعتْ طولاً وعرْضًا
إنّها حالة نفسيّة
لم أصادِفْها عند غيري
ولا حتى في الكُتُبِ
وحِيال أمْرٍ كهذا
لا حَوْلَ
للصّداقة ولا للأخُوّة ولا للحُبّ
وهذا الشّعور
لا يَحولُ دون الكفاح
من أجل مُثُلٍ نبيلة
لا يمنع الفرح
ولا الضّحك
ولا التّكافل
ولا فورة الحواسّ
لكنّه يُرهق
في كلّ شهيق
في كلّ زفير
في كلّ نظرة إلى السّماء
أو إلى الأفق
في كلّ كلمة تُسَطَّرُ على الصّفحة
إنه يُشبهُ سنّارة
عَلِقتَ في الحَلْق
ووجَبَ مع ذلك الاستمرار
في الأكل والشّرْب

أطلب صَفْحَكمْ
يا أحِبّائي!


■ ■ ■
 

الشِّعْر أنْقذَني

إلى حُدود الآن
الشِّعْرُ أنقذَني
لكنّي أَتَفَهَّم
أنّه قد يمَلُّ
من نداءات الاسْتِغاثة
حتّى من خُدّامِهِ الأوْفِياء.


■ ■ ■


فَتْحُ الجسد

أتناول
من عُلبة الأدوات
ما يَفي بالغرض
(مِشْرطًا، خيْطًا جِراحيًّا، لِصاقًا...)
وأفتح جسدي
الأعضاء في مكانها تمامًا
ليس هناك لوْنٌ مُريب
الدَّمُ يجري
بلا ضجيج
حَجْمُ الدّماغ
أدْنى من المُتَوقّع
وحجم القلب
في الحدود العادية
أبحثُ، وأبحث
ماذا تُراني نسيتُ؟
أنا هنا
وذراعاي مُتدلّيتان
أمام جسدي المفتوح
دون أن أدْري
كيف سأقْوى
على لَمْلَمَتِه.


■ ■ ■


الرّسْم

اللّوحة تَسْتَقْبِلُني
وهي أَهْوَنُ قساوةً من الصَّفحة 
أضَعُ يدي على كَتِفِها
تشُدُّ على خاصِرَتي
نَرْقُصُ
والسّاق على السّاق
في صَمْتٍ
اللّون الأسود
يفرض صَوْلتَه.


■ ■ ■


نِهايَة

أقرب إلى الأرض
الأرض الّتي تَحْت
أقرب إلى الشّجرة
الشّجرة الّتي فوق
قَدَمٌ
في هُوّة العَدَم
والأُخْرى
فوق الدّرج الأوّل للّامُتناهي
وفي البَالِ
لازمةُ أُغنيةٍ عتيقة
وبين اليدين
لا شيء
أمامي وخلْفي
جدارٌ عازِلٌ
وفي مُتناول النّظر
سَريرُ الموت السّافل
أفّ
إنّها النِّهاية!


■ ■ ■


مُلْحَق

يَرْحَلُ الشّاعر
بخَطْوٍ واثِقٍ
وغَضبٍ مُسْتَعِر
وثَغْرٍ باسمٍ
السبّابة تشير دومًا
 إلى الشَّرّ
والعيْنان
بالنّهَم عَيْنِهِ
وهَلُمَّ جرًّا!
وَداعًا أيّها الشّاعر
وشُكْرًا
على أيّ حال
سَفَرًا سعيدًا إلى الوِجْهة
الّتي اختَرْتَها
"لامَكانًا" كما أسْمَيتَها
لا بلادًا ولا كوكبًا ولا مجرَّةً
شيئًا
فضاءً
رغبةً من إبْداعِك
تلك الأشياء كلّها
الّتي رَعيْتَ دومًا
أسْرارها.


* قصائد من مجموعة "لا شيء تقريبًا" التي تصدر هذه الأيام عن "دار الرافدين"، بترجمة أنجزها عن الفرنسية: محمد خماسي.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون