غزّة.. 24/ 24 تحت القصف

23 مايو 2021
من العدوان الإسرائيلي جنوبي غزّة، 5 أيار/ مايو 2021 (Getty)
+ الخط -

تركتَ بيتك وغادرت سريعاً بعد ليلة صعبة، ناسياً شيئاً بالتأكيد، هل تذكّرت الآن؟ هناك على الأقل منفضة سجائر تحبّها. انتقلتَ إلى أقارب في مكان آخر، هل يبدو القصف أبعد الآن؟ لا، ولكنك تطمئنُّ قليلاً: ثمّة قصف هنا أيضاً، إذ نشترك جميعاً في الرهبة ذاتها. السماء حمراء في كلّ مكان، يعجبك اللون لكنّ شيئاً واحداً في رأسك: تشترك السماء والأرض على مساحة 365 كيلومتراً مربعاً في الوجع ذاته.

رجّة في رأسك هي نفسها التي تحدث في الأرض عند كلّ قصف. "زلزال... كلُّ البيت يهتزّ" تقول قريبة لك تعرّفت عليها اليوم. "هل سيقع على رؤوسنا؟" ترتفع العيون كلّها إلى السقف.

يبدأ اليوم من منتصف الليل. الساعة الثانية عشرة، تقف الطائرات صفّاً واحداً وتنظر بعين واحدة "عين الشيطان ذاته": هذا البيت لا يعجبني. يُقصف البيت بوابل من الصواريخ الحديثة، هل هناك أحد فيه؟ هذه ليست إحدى مهام الطيّار. تهرع سيارات الإسعاف والدفاع المدني، لا يتوقّف القصف، يجب أن يظلّ الإرهاب مستيقظاً لفترة أطول، هل نقتل هذا المُسعف؟ يتساءل طيّار في رسالة إلى زميله - يترنّح المزاج مثل بندول الساعة.

عند الواحدة ليلاً نترك الصالون الذي يجمع بعضنا أمام شاشة التلفاز، إذ يشتدّ القصف، ونذهب كلّنا إلى غرفة واحدة، إلى داخل البيت، بيت أقاربنا الذي استقبلنا، كلّ واحد منّا نحن الكبار يحتضن طفلاً ويحاول أن يخترع كذبة أُخرى: لم يعد أحد منّا يملك المزيد من الكذبات على الأطفال حوله. نعم، يتوقّف الإبداع مثلما يتوقّف كلّ شيء، يظلّ للحظة معنى واحد، بانتظار أن يحدث: هل سنموت الآن؟

هل سيقع على رؤوسنا؟ ترتفع العيون كلّها إلى السقف

نُمسك هواتفنا بيد أُخرى ونتابع الأخبار، كلٌّ منّا يُخبر الآخر بالخبر الذي عرفه للتوّ، نحاول أن نُطمئن أنفسنا أنَّ القصف بعيد عنّا، نحن نعرف نعم، نعرف أنّه قتل أحداً، ربما عائلة كاملة مثلنا، لكنّنا نعلن تضامننا بالخوف... لا بالبكاء. أجسادنا التي في كلّ بيت تلتئم وتدخل غرفتنا، كأنّ الأرواح التي تغادر تمرّ بيننا وتمسد رؤوسنا فنهدأ... نهدأ قليلاً حتى يقترب القصف.

دقائق وسط القصف، لا تتوقّف الأخبار العاجلة في اشتراكات "واتساب" نسارع لسبقٍ صحافي عبر "تويتة". لابن عمّنا متابعون كثر وقد ازدادوا أثناء العدوان الهمجي، يرسلون له رسائل لا تتوقّف، يعيشون معه كلّ لحظاته الصعبة ومعنا بدرجة أقلّ، ولهذا فإنّ هاتفه موصول 24/24. وهو منطقة قتال مفتوحة على الدوام؛ إذ يتقاتل مع إخوته على مكان شحن هواتفهم بالكهرباء، ومعنا نحن الوافدين الجدد، على استحياء، يجدّد تضامنه عبر "وصلة شاحن" موصولة ببطارية مشحونة مسبقاً في الساعة التي وصلت فيها الكهرباء.

يمضي الوقت من دون أن تشعر، الساعة الرابعة فجراً نخرج مجدّداً بعد أن نتأكّد من نوم الأطفال، نذهب إلى الصالون حيث علب سجائرنا التي اشترينا عدداً كبيراً منها ورؤوس المعسّل مختلفة النكهات ونبدأ بمتابعةٍ أُخرى أهدأ قليلاً من سابقتها، نُدخّن كثيراً، الدخان يهدّئ من روعنا - هكذا أعتقد، رغم نظريات: قد تعتقد الطائرة أنَّ الدخان الذي يخرج من النرجيلة هو دخان صاروخ! ونبدأ على إثرها بتقييم: من الأكثر خوفاً بيننا؟ مزحات سخيفة بالتأكيد، غير أنّها تضحكنا.

خوف؟ أليس هذا مبرَّراً؟ ما زالت صور الأصدقاء والجيران تحلّق حولنا، لقد ذهبوا ونحن نعرف شيئين اثنين: لحظات ما قبل قتلهم، حيث محادثاتنا الأخيرة قبل أن ينقطع الاتصال، وتلك المراثي التي شاركنا فيها لأجلهم على "السوشال ميديا"؛ مع عزاء مفتوح... سيظلّ للأبد.

لم يعد أحد منّا يملك المزيد من الكذبات على الأطفال حوله

نعم نحن نخاف أيضاً، نعم اعتدنا هذا الرعب اليوميّ وهذا الموت المجّاني، لكنّنا نخاف أيضاً لأنّ شيطان الحرب يطاردنا عند كلّ زاوية، لسنا بخير أبداً لأنّ الموت البشع رفيقنا على الدوام، نعم صوت الطائرات والقصف كلّ ليلة يخيفنا لأنّنا نملك مثلكم هذه النقطة الضئيلة التي تصيب بالرعب. نحن نخاف نعم، إننا مثلكم، لسنا استثناءً لشيء أبداً.

ما بين السادسة والسابعة صباحاً يهدأ القصف، وهي فرصة لنحاول أن ننام، نذهب في ساعات متقاربة ونحن نرى صورتين اثنتين أيضاً: نستيقظ كما كلّ يوم، أو نستيقظ مع الصورة التي رسمناها - مختلفين - بعد موتنا. هل ستكون هناك جنّة لنا؟ بالتأكيد سنكون في الصف الأول... ننام مبتسمين.

لا أنام كثيراً، ثلاث ساعات كافية تماماً، أتناول دواء "الريق" وأفتح "واتساب" الساعات الماضية. أعرف عدد الشهداء وأغرد قليلاً على "تويتر" تغريدات "فشّة غلّ". شيئاً فشيئاً يستيقظ الآخرون، تستيقظ الأمّهات أوّلاً: تِشرب قهوة؟ أعملك سندويش؟ شاي؟

- فش نفِس لإشي... يلا قهوة.

تمسك باكيت الدخان وتأكله. وتأكله هذه هي الكلمة اللازمة هنا، لا هي تشبيه ولا هي استعارة.

في النهار أنزل إلى الشارع وأتمشّى، الطائرات تحلّق فوقنا مباشرة، في كلّ سنتيمتر في الهواء ثمّة صوت يلاحقك، والمدفعية تقصف، ليست لديها وجهة محدّدة مثل مشيتي اليومية، غير أنَّ صوتها يفوق كلّ صوت. السوق مفتوح اليوم، هذا جيد، إذاً إلى السوق: بكام هذه؟ على إيش كلّ هاد؟ مغلاوني! يمكن أن يكون يوماً عادياً، هل يمكن؟ تختلط العادية بالمتغيّر، إذ إنّ أصوات الاستغلال والجشع تعلو فوق سقف ما في يد الناس وفوقهم تعلو مئات القذائف.

أعود إلى البيت بعد ساعة وخمسمائة اتصال من الأم، وينك يمّا؟ ارجع. أعود وفي يدي علب سجائر أُخرى لأيام يبدو أنّها ستطول.

في النهار نجلس كلّنا، حوالي عشرين شخصاً، يتأخّر الغداء لأنّ نقاشاتنا مستمرّة حول دور الجميع، ما الذي في أيدينا غير ما نقوم بتعليمه للصغار، وما نرسله إلى أصدقائنا العرب وغيرهم، إذ يمكن بعد أكثر من سبعين عاماً أن نقول إنّه يلزمنا المزيد من رسائل "مع الأسف" إزاء قضية عادلة مثل قضيتنا. قضية لديها كلّ يوم أحداث "مؤسفة"، أحداث حسب القانون الدولي هي "جرائم حرب"، ناهيك عن مصطلحات الإبادة والاستعمار ومشاهد الاعتداءات المتواصلة.

يستمرُّ العدوان، لا يتوقّف القصف، لكنّه لا يؤخّرنا. نتحدّث ونصادق ونهلّل ونحزن... كلّ دقيقة لديها لحظتها المقدّسة. لدى كلٍ منّا رأيه الخاص، غير أنّنا لا نختلف في ما يخص من يقاتل لأجلنا... وذلك الذي يقتلنا.

نهارنا تزكّيه كلمات امرأة عجوز شهدت أكثر مما شهدنا، فهنا، في غزّة تحت القصف، من لديه الحقّ في التكلّم أكثر هو من لديه ذاكرة أعلى. في الـ48 وفي الـ67 وفي حرب الأيام الستّة وفي حرب الخليج... وإلخ إلخ من مفردات المجازر الصهيونية والعجز العربي التي لا تنتهي. تخبرنا بقصص كثيرة، نتحدّث ونصادق ونهلّل مرّة ونحزن مرّات.

يحلّ الليل سريعاً، لا نعرف ما إذا كان اليوم هو الأربعاء أم السبت، مثل المسجون في زنزانة تحت الأرض، تصير كلمات مثل الشمس رفاهية، غير أنّه ينعم بالسكون أيضاً مثل أصدقائنا الذين دفنّاهم منذ أيام.

الليل في الحرب، يتذكر الطيّار من ليلة أمس أنّه لم يقصف المسعِف ورجل الدفاع المدني ومجموعة أطفال نائمين، يقف مع سرب طائرات من مكان فوقنا كلّنا، يحتار قليلاً ثم يطلق صاروخه، أيّ عائلة ستُحذف من السجلّ اليوم؟

نحاول أن ننام، وفي رأسنا نضبط ساعة واحدة: حزيناً أو سعيداً كنت... ربما يغتالني الآن منبّه حرب.


* شاعر فلسطيني من غزّة

المساهمون