ردّاً على قراءة عاطف الشاعر لـ"كعب آخيل"

24 سبتمبر 2021
تمثال أخيل في المتحف البريطاني (دان كيتوو/ Getty)
+ الخط -

أكتب هذا التعقيب على مقال عاطف الشاعر: "خلدون الشمعة في 'كعب آخيل': محاولة لقلبِ الطاولة المعرفيّة" (العربي الجديد، 07 أيلول/ سبتمبر 2021)، وذلك بغرض التصويب تحديداً؛ إذ ليس في تلك القراءة، للأسف الشديد، ما يُغري بالسجال أو يستدعيه.

الكتاب: "كعب آخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي" يدور حول دور العلم والتنوير الذي ينتمي إلى المركزية الغربيّة في نقض ما لم يُعتبر دائماً حقيقة ناجزة في مدوّنة النقد الثقافي العربي.

النقد هنا يتقاطب مع النقض: النقد تأويل، والنقض برهان. يبدأ التقاطب - لمَن لا يعلم - مع الشاعر جون كيتس، عَلَم الحركة الرومانسية الإنكليزية (1795 - 1821)، الذي اتهم نيوتن بتدمير ما تنطوي عليه شعرية قوس قزح عندما رأى أنّ هذه الشعرية حصيلة لانعكاس ضوء أبيض اللون. الاستقطاب هنا، أو ربما المواجهة، هما بين الشعر والعلم، وليس بين الهامش العربي والمركز الغربي. وأمّا كعب آخيل، فهو كلمة مفتاحية، باراديم، أو استعارة، أو مجاز توضيحي يشير إلى بؤرة الضعف في النص، وهذا التحديد يجعل من الممكن رصد صيرورة النقد قبل أن يتحوّل إلى نقض معرفي. وأحد الأمثلة على ذلك نقض كارل بوبر لادعاء الفرويدية والماركسية بأنّ كلاً منهما يشكّل علماً قائماً بذاته، علماً قادراً على تفسير كلّ شيء رغم اختلاف المكان والزمان.

بهذا المعنى تقوم توطئة الكتاب بتفعيل النص، بدءاً مِن تحديد بؤرة الضعف والانطلاق منها إلى صيرورة التحوُّل من النقد إلى النقض. ولهذا، فإن الإشارة إلى وجود مقدّمة بدلاً من توطئة في التعليق الذي نحن بصدده تحتاج إلى تصويب. لا تختلف التوطئة عن المقدّمة كثيراً، ولكنّها أشدّ جلاءً ووضوحاً. ولأن التوطئة بَوصلة القراءة، يتعيّن أن تكون غائيتها ماثلةً في كلّ فصل من الكتاب. لا يمكن قراءة النص والحفاظ على غائيته دون الانطلاق من ضوابط مباطنة للبوصلة النقدية. وأشدّد هنا على أنّ في كل فصل من الكتاب محاولة لضبط إيقاع واحد للنص.

يتبنّى أدونيس فكرة الثابت والمتحوّل وكأنّه صانعها

أدونيس يكتب عن ثابت ومتحوّل يزعم الأب بولس نويا المشرف على أطروحته والذي يكتب أدونيس في إهدائه له أنه "رمز للخروج من حد المملوكية إلى حد الحرية"، يزعم أنه لا يمكن نقد الأدب العربي إلّا بنقد الإسلام. كعب آخيل يكمن هنا في أن الأدب العربي، خلافاً لما يقول أدونيس والأب نويا، يبدأ بالمعلّقات. ولهذا فضلاً عن أسباب أُخرى، يصير ربط الأدب العربي بالدين ربطاً مفتَعلاً يباطن الرغبة في تحويل الحوار، أو ربما السجال، إلى نقار ديَكة طائفيٍّ عقيم، أي يظلّ بعيداً عن الصواب. الأدب العربي بمعلّقاته وخمرياته ليس مرتبطاً بالدين بأي حال. كما أن الفصل المطوَّل الذي يعقده طه حسين في كتابه "ألوان" الصادر عن "دار المعارف" بمصر (1952) لفكرة الثابت والمتحوّل، هو سعي منه لتأكيد نسبتها لواضعها أوغست كونت (1798 - 1857)، صانع سوسيولوجيا العصر الحديث ومبتكر الوضعية Positivism، المذهب الفلسفي الذي يُعنى بالظواهر والوقائع اليقينية بعيداً عن التجريد.

وأزعم هنا اكتشافي شخصياً دراسة طه حسين لأصول فكرة الثابت والمتحوّل في فكر عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت الذي تحدّث عن ثابت اجتماعي social statics ومتحوّل اجتماعي social dynamics. الثابت يمثّل محاولة للوصول إلى قوانين التعايش Coexistence، والمتحوّل يمثّل محاولة للوصول إلى قوانين التغيّر Change التاريخي. بين كتاب "ألوان" لطه حسين 1952 والجزء الأوّل "الأصول" من كتاب أدونيس "الثابت والمتحوّل: بحث في الاتّباع والإبداع عند العرب" قرابة ربع قرن (بيروت، دار العودة 1974). أدونيس يتبنّى الفكرة وكأنّه صانعها، بينما ينسب الأب نويا الفكرة لنفسه، ويقول إنه كان يتمنّى أن يطبّقها بنفسه. أمّا طه حسين فيحاول تطبيق فكر أوغست كونت على الأدب العربي على نحو يذكّرنا بمحاولته تطبيق الشك الديكارتي. وعلى ذلك فإن التطرُّق لهذا الموضوع ليس كما يدّعي المُراجِع: "انتقاء يميل أحياناً إلى شيء من التعسُّف في ما يتعلّق باتجاهات مهمّة كالتي طرحها طه حسين وأدونيس ومحمد عابد الجابري". طه حسين يُطرح هنا في الكتاب نقيضاً وليس قريناً لأدونيس، نقيضاً يعنى بنسبة ما لله لله وما لقيصر لقيصر.

مشكلة النسبة إلى مصدر محدَّد تتطوّر لدى البحث في نقد آخر يوجّهه أدونيس للعربي عندما يقول إنّ لغته تكتبه دون نسبة المقولة إلى هايدغر؛ الفيلسوف الألماني الذي يقول الكلام نفسه ولكن في معرض الفخر باللغتين الألمانية واليونانية. وتكمن المفارقة بين الطرفين في كونها لا تُطرح في كتابي بأي قدر من التعسُّف، لأنّ هذا لا يمسّ فقط بمحاولتي أن أكون ناقداً موضوعياً، بل يباطن فكرة الكتاب أصلاً ويشوّه غائيته.

من المثير للاستغراب إسقاط الكاتب اسم صادق جلال العظم

تقول نظرة المعلّق: "أجد نفسي أمام أطروحة غير مقنعة بقراءة الشمعة لأفكار طه حسين وأدونيس ومحمد عابد الجابري". ثم يعلّل صاحب النظرة ذلك بالقول: "لا يكفي الرجوع لأمجاد الماضي الأدبية والفلسفية للتغطية عليها ولتجاوزها". قراءتي لأفكار هؤلاء الثلاثة لا علاقة لها بهذا التعالم النفاجي والكوميدي، أي لا صلة لها بالرجوع إلى أمجاد الماضي وتجاوزها. الكتاب يصدر عن غائية لا تنتمي في المآل الأخير إلى ماضوية آفلة، بل إلى انفتاح وتنوير يتشاكلان - شئنا أو أبينا - مع فاعلية العلم الذي ما زالت سلطانيته ممثلة بالمركزية الغربية هنا والآن.

أصل إلى محمد عابد الجابري لأوضّح أنّ التطرّق إليه يتّصل بالتطوّر الذي حصل في الإنسانيات المعاصرة ولم ينقّط تنقيطاً بعد trickle down ليصل إلى الدولة العميقة، أي ليصير نقضاً معرفياً شائعاً للنقد الثقافي. موضوع هذا التطوّر هو تخليص الفلسفة من الدين. رجال الدين ناهضوا الفلسفة على مر العصور وأصبحت الفلسفة في مظانها المعاصرة، كما أوضحتُ، فلسفة عربية وليس إسلامية، كما أشاع أرنست رينان (1823 - 1892)، الذي أخذ عنه محمد عابد الجابري. في الفصل الخاص بهذا الموضوع إشارة إلى دور جورح طرابيشي في الكشف عن الدور الذي لعبه رينان، الذي أصرَّ على أسلمة الفلسفة ودعاها "فلسفة إسلامية" رغبة منه في تفنيد الدين وليس إعلاء شأن الفلسفة. يقول رينان: "تعاليم الإسلام تتنافى مع البحث والنظر الطليق وإنها، تبعاً لهذا، لم تأخذ بيد العلم ولم تنهض بالفلسفة".

ويقول الجابري، الذي يتبنّى فكر رينان في كتابه "تكوين العقل العربي": "إذا جاز لنا أن نسمّي الحضارة الإسلامية بإحدى منتجاتها... فإنه سيكون علينا أن نقول إنها حضارة فقه، وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها حضارة فلسفة، وعلى الحضارة الأوروبية المعاصرة حينما نصفها بأنها حضارة العقل الغربي". (دار الطليعة، بيروت).

الادعاء استشراقيُّ المنزع سبق أن تكرّر فحواه في جزم أحمد أمين في "ضحى الإسلام" بأن "فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد كانوا كالمفوّضية اليونانية في البلاد الإسلامية". وكذلك جزم عبد الرحمن بدوي في كتابه "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية" بأن "الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية، لذا لم يُقدّر لهذه الروح أن تنتج فلسفة، بل ولم تستطع أن تفهم روح الفلسفة اليونانية وأن تنفذ إلى لبابها".

ختاماً أشير إلى أن شخصنة التعليق تدعوني إلى التأكيد بأن موقفي الشامل من نتاج أدونيس ومحمد عابد الجابري وطه حسين (العصب الأساسي لجزء غير يسير من الممارسة النقدية العربية)، بعيد كل البعد عن خطاب شائع مشوب بالاستسهال. نقد الجزء أو نقضه لا يعني موقفاً شاملاً من شاعر من وزن أدونيس، أو فيلسوف مهمّ جذّاب الأداء من طراز محمد عابد الجابري. ولعلّ المثير للاستغراب في هذا السياق من الشخصنة إسقاط المعلّق اسم صادق جلال العظم من بين الأيقونات الثلاث التي يسبر الكتاب كُنهها على سبيل الرثاء، والاكتفاء بالإشارة إلى الطيب صالح وجورج طرابيشي.

أخلص أخيرأً إلى القول إن اسم آخيل يكتب بالمَدّة على الألف لا بالهمزة كما فعل المعلّق مراراً، وذلك عملاً بأصول ما يدعى transfiguration وفقاً للتقليد الجامعي المعمول به، وأعني بذلك الالتزام بالأداء الصوتي لدى نقل حروف لغة إلى لغة أُخرى.


* ناقد سوري مقيم في لندن

المساهمون